استراتيجياكتاب الموقع

بديهيات الساعة الرابعة والعشرين (ج3 )

الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية والجيوبوليتك

1- صارت عناوين الصحف المصرية تٌكتب مقلوبة .

نشرت المصري اليوم تصريحا للمتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية تحت عنوان : ( واشنطن تحذر أثيوبيا ) ، وحين تقرأ النص الأصلي للتصريح ، تفاجأ بأن واشنطن لا تحذر أثيوبيا ، وإنما تحذر مصر ، فهي ترى منتوج الحالة كلها مجرد ” توتر ” أقصى ما يحتاجه أن يتم خفضه بواسطة جهود الاتحاد الأفريقي ، وبينما تدعو مصر وأثيوبيا إلى الامتناع عن الخطوات الأحادية ، لا ترى في بدء أثيوبيا للملء الثاني خطوة أحادية الجانب ، وإنما ترى نصا أنها ( ستؤدي إلى زيادة التوتر ) وعلى مصر بالتالي أن تهدأ من توترها بمزيج من عصير الليمون والنعناع ومواصلة إستراتيجية ” دبلوماسية الملاينة ” .
لقد اتصل بلينكن في التوقيت ذاته بأبي أحمد ، وحسه على ضرورة وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الأريتيرية من إقليم تجراي وضمان وصول المساعدات الإنسانية ، أما موضوع السد والملء الثاني والخطوة الأحادية الأثيوبية الثانية ، فلم يكن له أدنى أهمية ليحظى ولو بإشارة عابرة في الاتصال .
لهذا لا تستطيع أن تُمسك بسبب موضوعي واحد لما قد يبدو تمسكا مفرطا بأمل في استدارة أمريكية ، تأخذ في اعتبارها الحقوق المصرية والمصالح المصرية العليا ، حد تجميل قبح هذا الوجه الأمريكي ، وإذا لم يكن البعض قادرا على أن يهضم بديهية أن السد نفسه ليس سوى حلقة أساسية ، في إستراتيجية أمريكية كاملة لإعادة صياغة أوضاع الإقليم سواء على مستوى الجغرافيا الإستراتيجية ، أو على مستوى مواقعه الحاكمة ، أو على مستوى موازين القوى ، في صيغة إنقلاب إستراتيجي كامل يمتد من المحيط الهندي إلى منابع النيل مرورا بالخليج واليمن والقرن الإفريقي والضفة الشمالية للبحر الأحمر وتخومها ، بما في ذلك شبه جزية سيناء وقناة السويس ، بكل آثارها القاتمة على الكيان المصري كله ، فلعله يهضم حقيقة أننا أمام إدارة أمريكية تتنفس ثأرا من مصر لأسباب ليست خفية .

2- يبدو أننا أمام ملمح إضافي في عمق هذه الإستراتيجية ، بدأت مقدماته في الظهور ، لكن نتائجه الأبعد مدى سوف تكون أكثر حضورا ووضوحا ، وهو أن التغيير الجيواستراتيجي الكبير المتعلق بجغرافيا الإقليم ، سيصاحبه تغيير ديموغرافي كبير أيضا ، أي تغيير للتركيب السكاني لدول بعينها في الإقليم .
لقد تعمد البعض أن يضيف إلى السعودية دورا مشهودا في موضوع السد ، فأطلق في الفضاء معلومة كاذبة عن قيام السعودية بإنهاء وجود 40 ألف أثيوبي على أراضيها تضامنا مع مصر ، ثم تحولت المعلومة الكاذبة إلى رسائل ترحيب وتقدير للموقف السعودي فوق بعض صفحات الإعلام ، والحقيقة أن السعودية على النقيض من ذلك ، أخذت منذ شهور في تهجير قوافل من الأثيوبيين إلى مواقع في جنوب اليمن ، وقد بلغت أعداد الأثيوبيين الذين تم تهجيرهم إلى هناك ، خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة حوالي 15 ألف أثيوبي ، وإذا كانت عملية التهجير تتم بدعوى توفير فرص عمل قبل أن تنتهي إلى التجنيد في أعمال عسكرية ، فإن الملاحظ أن هناك تراكما كميا في أعداد أفارقة من جنسيات مختلفة ، وفي مواقع محددة لها طابع إستراتيجي في جنوب اليمن ، وهو ذاته ما تقوم به تركيا حاليا في إعادة بناء التركيب السكاني في شمال سوريا على أساس إنشاء دولة تركمانية .
وتستطيع أن تلاحظ في السياق ذاته قيام الإمارات بمنح جنسيتها لعدد خمسة آلاف ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية دون ورود معلومات موثقة عن أعداد إضافية من جنسيات أخرى تم بدورها منحها الجنسية الإماراتية .
والموضوع هنا ليس متعلقا كما قد يرى البعض ، بمنح تسهيلات لإسرائيليين بعينهم للقيام بعمليات اختراق أو أعمال مخابرات في الإقليم العربي ، تحت ستار مواثيق سفر إماراتية ، فالأمر الأخير متاح للإسرائيليين دون الحصول فعليا على الجنسية الإماراتية ، وبالنسبة للإمارات تحديدا او البحرين مثلا ، أو حتى بعض المواقع الحاكمة في جنوب اليمن ، تستطيع أن تتبين حجم التغيير في المرحلة الأولى بمقارنة أولية مع أعداد السكان الأصليين ، أو حملة الجنسية الوطنية مع مصر ، فإن خمسة آلاف إسرائيلي يحملون الجنسية الإماراتية من بين حوالي مليون مواطن إماراتي في هذه المرحلة ، يتكافأ مع أن يحمل الجنسية المصرية نصف مليون مواطن إسرائيلي على الفور .
ولا شك عندي أن السد نفسه إذا استمر على حاله باعتباره حلقة أساسية في إستراتيجية الولايات المتحدة ، سوف يؤدي بحكم آثاره المباشرة على مصر من جهة ، وبحكم ما سيلحقه بالبيئة الإستراتيجية في الإقليم من حولها من جهة أخرى ،إلى إحداث تأثيرات عميقة في عمليتي التوزيع السكاني والتركيب السكاني على طول وعرض وعمق المعمور من حوله .
إن الأمطار الغزيرة تبدأ بزخات قليلة من الماء ، ثم سرعان ما تتحول إلى سيول ، ثم سرعان ما تتجمع في برك جديدة حسب ما تفرضه قوانين الطبيعة .

3- لقد فقدت أمريكا القدرة على توجيه العمليات التاريخية الكبرى في العالم دون أدنى شك ، وهي تخوض معركتها الأخيرة ضد التآكل في الشرق الأوسط تحديدا حتى يبدو السيد بايدن في صورة (دون كيشوت الأخير) .
لقد فسر الإنسحاب من أفغانستان بأنه يعكس يقينا بأن تحقيق النصر في الحرب هناك ، لم يعد قابلا للتحقق بعد 20 عاما ، وترك طالبان تجز رؤوس الولايات الأفغانية ، ومعها رؤوس حلفاء الغزو الأمريكي الذين أحنوا ظهورهم جسورا عبرت عليها القوات الأمريكية ثم عملوا سائسين في حظائرها ، ليصطدموا بحائط المصير ذاته ، الذي اصطدم به غيرهم في كوريا وفيتنام والعراق ، مع أن دروس كوريا وفيتنام ماتزال ندوبا غائرة في الذاكرة الإستراتيجية الأمريكية .
لم يكن ثمة بديل عن تحويل الشرق الأوسط إلى بؤرة الاضطراب العالمي الكبير في مرحلة ، ثم الدخول في مرحلة إجبارية من تقليل التكلفة إلى الحدود الدنيا ، لانتقاء الأهداف وتركيز النيران ، وتحويل الشرق الأوسط ذاته إلى لوحة التنشين المباشرة والعمل على إحداث إنقلاب إستراتيجي كامل فيه .
لماذا ؟
باختصار قد يكون مخلا ، تستطيع أن تطل على الإجابة – أولا – في بنود مستخلص من تقرير لمركز الأمن القومي الأمريكي يقول بألفاظه ( إن العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج قد وصلت إلى نقطة تحول ، فقد ألغى التطور التكنولوجي الروسي والصيني التميز الأمريكي الذي كان يعتمد على حاملة الطائرات ) وأن ( روسيا أنشأت في بحر البلطيق نظام دفاع جوي معقد ، ونشرت أنظمة صواريخ مضادة للسفن ، حذرت قيادة الناتو منها واعترفت بفاعليتها الشديدة ) وأن ( الصين أنشأت نظاما متكاملا أدخلت في بنيته أحدث الصواريخ أرض جو ، والصواريخ المجنحة المضادة للسفن والطرادات الصاروخية ، وهو نظام يحمي من كافة التهديدات البحرية ) .
وتستطيع أن تطل على جانب من الإجابة – ثانيا – في مقال نشرته المجلة العسكرية الأمريكية للجنرال هوارد طومسون ، القائد السابق للقيادة الأمريكية الشمالية يقول بألفاظه : ( أن روسيا والصين وصلتا بالفعل إلى البُعد الرابع بمساعدة الأسلحة الأسرع من الصوت ) وأن ( أسلحة الدفاع الجوي الأمريكية ستصبح عتيقة بشكل تلقائي تحت تأثير البُعد الرابع الذي يضيق بشدة نافذة اتخاذ القرار ) ضاربا المثل بالصاروخ الروسي المجنح ( أفانجارد ) العبر للقارات والذي تبلغ سرعته 24 ماخ ( 24 ضعف سرعة الصوت ) .
أما البُعد الرابع فهو البُعد المتغير الأساسي فوق المسرح الإستراتيجي الدولي وهو الزمن ، ولذلك انتهت رؤية الجنرال إلى أن على أمريكيا أن تشتري الوقت ، ويبدو أنه ليس ثمة وقت قابل للشراء ، بشكل شبه مجاني إلا في الشرق الأوسط .
وتستطيع أن تطل على جانب من الإجابة – ثالثا – من تأكيد مصادر في البنتاجون نفسه ، من أن الولايات المتحدة ستخسر الحرب مع الصين في حالة اندلاعها في المحيط الهندي ، وأن الجيش الأمريكي غير قادر عن الدفاع عن تايوان ، وأن جزيرة جوان تبدو في خطر حاليا ، بل إن مركز أبحاث تابع للبنتاجون ، رأى في أحد أوراقه قبل أسبوعين فقط أن ( تايوان غير أساسية بالنسبة للولايات المتحدة ) .
وتستطيع أن تطل على جانب من الإجابة رابعا وخامسا وسادسا .. الخ .

4- لقد كتب بايدن في (الفورين أفيرز) ، قبيل الانتخابات الأمريكية الأخير ما نصه ( أن النظام العالمي الذي أقامته الولايات المتحدة آيل للسقوط ) لكنه لم يكمل أن ترميمه يحتاج إلى التركيز في الشرق الأوسط ، وتركيز النيران على أهداف منتقاة فيه ، والتحول من إستراتيجية الردع إلى إستراتيجية القسر ، وتحويل شعوبه ودوله إلى كائنات تنافسية ، قبلها كتب فريدمان مقالة عن الشرق الأوسط ، قال فيها : إن الشرق الأوسط يدور حول الجحيم ثم تساءل ما هو الحل قبل أن يقدم الإجابة ، وهي : ( أن يتم إخضاع الشرق الأوسط لهيئة دولية تتولى ضبط أوضاعه .
ويبدو أن فريدمان لم يكن يعبر عن تصور شخصي ، وإنما عن توجه تم تطويره في عدد من المراكز والأجهزة الأمريكية ، قبيل صعود الإدارة الجديدة إلى السلطة ، ثم تغيرت الألفاظ وحدها في التطبيق ، فبدلا من إخضاع الشرق الأوسط إلى هيئة دولية ، يتم إخضاعه إلى ولاية أمريكية لبريطانيا وفرنسا وألمانيا نصيب فيه ، ولروسيا بدورها نصيب أكبر ، وهكذا تم تفعيل إستراتيجية القسر التي عبر عنها مفكر صيني قديم في عنوان بليغ هو ( إستراتيجية ضرب البيض بالأحجار ) فالمطلوب من إستراتيجية القسر هو كسر الإرادة ، والانحناء المذل ، والإذعان الكامل ، والقبول بالانخراط كمفردة طيّعة من بين مفردات هذه الإستراتيجية ، أو على حد تعبير دراسة أمريكية عن التحديات الخمس الرئيسية للأمن القومي الأمريكي ، حيث جاء التحدي الخامس نصا : ( تسخير الحلفاء .. harnessing allies ) وهو مشتق من السُخرة .
لك أن تلاحظ أن سيوف ثلاث دول في الشرق الأوسط من بينها سيفان عربيان ، وضعت على عنق النظام في الأردن ، قبل أن ينتهي الأمر إلى القبول بتوقيع الاتفاقية العسكرية الأخيرة مع الولايات المتحدة ، وهي الاتفاقية التي سمحت بتحويل الأردن إلى نقطة الانطلاق للإمدادات الأمريكية في الشرق الأوسط ، بنقل 27 مستودعا لتخزين 150 دبابة أبرامز ، و116 مركبة برادلي ، إضافة إلى نقطة ( فالكون ) المتعلقة بالإمداد بالذخيرة من قطر إلى هناك ، وقد استبقت الاتفاقية أرتال من الدبابات الأمريكية ، تسابقت من ميناء العقبة جنوبا ، إلى الحدود الشمالية مع سوريا ، بل إن المدهش أن القوات الألمانية التي انسحبت من قاعدة أنجرليك التركية ، ذهبت بدورها للتمركز في الأردن إلى جوار القوات البريطانية والفرنسية ، ولك أن تلاحظ أن التمركز الجديد ليس فقط على مقربة من إسرائيل ، أو مرمى حجر من البحر الأحمر ، فقد تزامن مع إعادة بريطانيا تموضع وحداتها العسكرية المنسحبة من أفغانستان ونشرها على امتداد السواحل الجنوبية والشرقية لليمن .
لقد كان المعلن في مرحلة سابقة هو ضم إسرائيل إلى الإقليم ، أما الذي يتم حاليا ودون إعلان فهو ضم الإقليم إلى إسرائيل .

5- في جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول السد ما يعطي انطباعا عميقا ، عن حالة مستجدة من ترتيب الحدود ومساحات النفوذ والمصالح بين القوة الصاعدة والهابطة والطامعة ، على سطح النظام الدولي فوق خرائط الشرق الأوسط ، ولذلك تستطيع أن تفهم كيف لهذا الخطاب المتماسك البليغ ، الذي ألقاه وزير خارجية مصر وقد تحولت كلماته إلى دبابير سامة في فضاء الاجتماع ، كان دور أغلب المندوبين أن يهشها بعيدا عن أذنه ، فقد كانت المواقف سابقة التجهيز .
لقد ضيقت الولايات المتحدة الفجوة بينها وبين أوربا ، وأصبح حيز المناورة في الحدود بينهما أكثر ضيقا ، كما ضيقت الفجوة مع روسيا في توجه لخلخلة التحالف الروسي الصيني ، حد التعهد غير المعلن بالدفاع عن وحدة سيبيريا الروسية ضد الصين .
وفي المعلومات التي تسربت عن قمة الدول الصناعية الكبرى ، التي تغير أسمها إلى قمة الدول الديموقراطية الكبرى ، ما يستحق التوقف والمراجعة ، إضافة إلى ما تسرب من قمة بايدن – بوتين في 19 مايو الماضي ، حيث تكفي الإشارة في هذا الحيز إلى معلومة واحدة هي الاتفاق على أن المصانع الأوربية ستعتمد كليا على الغاز الروسي ، وسيتم استكمال مشروع بناء خط أنابيب نورد ستريم 2 ورفع العقوبات عن الشركات التي شاركت في بنائه .
ولذلك للأسف عندما تقرأ ما تنتجه أغلب مراكز الدراسات والأبحاث في مصر وبعضها يحصل على كثير من المال ، وكثير من الصور الملونة ، يجري الدم ساخنا في عروقك ، لأن مهمتها أصبحت أقرب إلى التضليل منها إلى التحليل ، وأقرب إلى (تجميد الموقف) منها إلى (تقدير الموقف) .
المشكلة هنا أن الفرقاء على سطح النظام الدولي قد توصلوا إلى صيغ لمقايضة مصالحهم في أنحاء العالم على حساب الإقليم العربي ، بل تستطيع أن تقول على حساب مصر .
وفي المحصلة النهائية فإن تشكيل شركة دولية – لا شراكة – لإخضاع الشرق الأوسط لن يتحقق دون إخضاع مصر ، ولذلك ليس من المبالغة القول أنها قمة المبارزة الإستراتيجية مع مصر ، على امتداد التاريخ الوطني كله .
وليس من المبالغة القول ، أن مصير مصر معلق بها ، كما أن مصير الشرق الأوسط كله معلق بمصير مصر .
وليس من المبالغة القول ، أن المطلوب استراتيجيا ليس قطع شريان الحياة عن الشعب المصري بكل نتائجه وتداعياته ، وإنما إفقاد الدولة المصرية نفسها مبررات وجودها .
وليس من المبالغة القول ، أن مصر تلقت دعوة للانتحار وأنه لا بديل عن رفضها ، ولم يعد ثمة بديل لرفضها بغير استخدام القوة المسلحة .
أظن بعد ذلك كله أن ما تبقى من بديهيات الساعة الرابعة والعشرين يبدو واضحا كنصل مسنون .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى