الأمن السّوريّ والحقائق غير المعروفة
ابراهيم شير | كاتب وصحفي سوري
منذ عام 2011 تغيّرَ كلّ شيء في سوريا، ولكن بقيت الدّولة الوطنيّة على ما هي عليه بالرّغم من الحربِ المفروضةِ عليها، الشّبيهة بالعاصفةِ القويّةِ التي اجتاحتها أو ما يسمّى “بالتسونامي” الذي ضربها.. وبرغمِ الدّمار ساهمَت عدّة أمورٍ في صمودِها وعدم كسرِها، متوّجةً إيّاها بنصرٍ حقيقيٍّ، أهمّها جهازُ الأمنِ والمخابرات، ففي 15 آذار/مارس من عام 2011 ارتدى ضبّاطُ الأمنِ السّوريّ البدلةَ العسكريّة، متجرّدين بذلكَ من زيّهم المدنيّ؛ ليكونوا جنباً إلى جنب مع الجيش العربيّ السوريّ في كافّة ميادين القتال، حيث قدّموا الكثير من التّضحيات.
أجهزةُ الأمنِ السّوريّة كان لها دورٌ كبيرٌ في الكشف عن المؤامرةِ المحاكةِ ضدّ البلاد، وذلك لما تتمتّع به من خبرةٍ واسعةٍ في هذا المجال، فقد خاضَت حرباً ضروساً ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ، وأسهمَت بشكلٍ كبيرٍ بالانتصارِ في حربِ تشرين عام 1973، وهي من وضَعت حدّاً للفتنةِ في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي. كما كانَ لها دورٌ بارزٌ في الحربِ ضدّ كيان الاحتلال داخل الأراضي اللّبنانية، فقد كشَفَت عن العديد من شبكات التّجسّس الإسرائيلية. إضافةً إلى تواجدها وعمليّاتِها في الخارج خصوصاً في مناطق النّزاعِ والتّوترات، مثل: أفغانستان، والشّيشان، والقوقاز، كما استطاعت بشكلٍ دقيقٍ وواضحٍ ضربَ عمقِ الشّبكات الإرهابيّة، ووقفَ تدفّق المسلّحين إلى هذه البلدان، خلال ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي وصولاً إلى بدايةِ الألفيّة الجديدة، حيث كانَ لها الفضلُ الكبيرُ بالأمانِ الذي تتمتع به الكثير من دولِ العالم.
إنجازاتُ “الأمنِ السّوريّ” لاتنتهي هنا، فبحسب بعض المصادرِ استطاعَ وأَدَ الفتنةَ في مهدها داخل “إدلب” أواسطَ العقدِ الماضي، عندما قامت الجماعات السّلفيّة وحاملي أفكار القاعدة بالتّخطيطِ لأعمالٍ إرهابيّةٍ في سورية، حيث تمكّنَ من اقتلاعِ هذه العناصر من جذورِها، دون شعور الشّارع السّوريّ بشيءٍ، بهدفِ مواصلةِ المواطنين لحياتِهم بشكلٍ طبيعيّ.
بالعودةِ إلى الحربِ المفروضة على البلاد، أسهمَ الأمنُ السّوريّ في تحديدِ عناصرِ الجماعاتِ الإرهابية فرداً فرداً، وتعقُّبِ مصادر تمويلهم وتسليحهم، وتمكّنَ من معرفةِ العناصر الأجنبيةِ والقبض عليها، وأجبرَ الدّولَ الأوروبيّة على الاعترافِ بقوّتهِ، والتماسِ ودّهِ، عندما طلبت تزويدها بأسماء الإرهابيّين الذينَ يقاتلون في سوريا ويحملون جنسيّاتها، ما أعطى الدّولة السّوريّة اليد العليا في أيّةِ مفاوضاتٍ مستقبليّة مع الدّولِ الأوروبيّةِ، فهذه الورقة تمثّلت بالتّنسيقِ الأمنيّ مقابل عودةِ العلاقاتِ الطّبيعيّةِ، ورفع العقوباتِ عن الشّعب السّوريّ. كما شاركَ أيضًا بالحربِ العسكريّةِ، وحربِ الشّوارعِ البعيدة كلّ البعدِ عن عملِه الأساسيّ، ممّا أدّى إلى سقوطِ الكثير من الشّهداءِ من قادةٍ وعناصرٍ.
أجهزةُ الأمنِ ظُلِمَت بشدّة من السّوريّين، ولاسيّما القائمين على الدّراما التي لم تكن حياديّةً مع أجهزةِ المخابرات، فلطالما تعرّضت للضّبّاطِ محاولةً تنميط شخصيّاتهم وطبيعةِ عملِهم، وتعميم صورةٍ غير صحيحة كلّيّاً، تظهرهم بمظهرِ الشّخصِ المتخلّفِ حاملِ الأمراضِ والعقدِ النفسيّةِ، الذي يشتمُ ويتهجّمُ دائماً على النّاس، ويسجنُ، ويسحلُ، ويقتلُ، وأمور كثيرة ليسَت منهم أبداً. في الحقيقةِ الذي يقترب من ضبّاط الأمنِ السّوريّ يستنتج أنّهم مثقّفين، وقارئين، ومتعلّمين، إضافةً إلى إنسانيّتهم تجاه الآخرين، وذلكَ من خلالِ التّجارب القاسية التي يتعرّضون لها، إضافةً إلى أنّهم يحترمونَ المتديّن الوسطي، فلا يتعرّضون للدّين، لأنّ همّهم الأوّل والأخير القضاء على التّطرّف المغذّي للإرهاب، سواء كان دينيّاً أو فكريّاً أو حتّى سياسيّاً.
أهمّ إنجازاتِ الأمنِ في سوريا بعد الحربِ هو تواصلُه مع الشّارعِ، وتوعية المجتمعِ بدورهم وأعمالهم، فمثلاً في السّابقِ عندما كانَ يتمّ ذكر اسم جهاز مخابرات معيّن في البلاد، يرتجفُ الشّخص خوفاً، وقد يتطوّرُ الأمر حتّى للخوفِ من الاقترابِ من شارعٍ فيه فرع مخابرات، ولكن هذا الأمر تغيّرَ بصورةٍ كبيرةٍ جدّاً الآن، فالجميع باتَ يعي دورَ هذهِ الأفرع وما تقومُ به لأجل المجتمعِ والوطن، وخير مثالٍ على ذلك اللّواء الرّاحل الدّكتور “بهجت سليمان”، من منّا لا يعرف أبو المجد؟ وهو الّذي كانَ رئيساً لجهازِ الأمنِ الدّاخليّ في سوريا، بالإضافةِ إلى جهازِ رصدِ العدوّ التّابع لأمنِ الدّولة، فهذا الرّجلُ يعتبرُ عامودًا أساسيّاً ورئيسيّاً من أعمدةِ أجهزةِ المخابرات العربيّة والسّوريّة، لكن لو سألنا شخصاً لا يعرفه عن شخصيّته ماذا سيقول؟ للوهلةِ الأولى سيعتقدُ أنّهُ رجلٌ جبّارٌ، متسلّطٌ، لا يرحم، فهذهِ الصّورةُ الّتي صوّرتها الدّراما وزرَعتها داخل عقولِ أفرادِ المجتمعِ، ولكن في الحقيقةِ كان -رحِمَه الله- قمّة بالتّواضعِ، والإنسانيّةِ، والمعرفةِ، إضافةً لكونِهِ شاعرًا وكاتبًا ومفكّرًا، وبالرّغم من اسمِه الذي يهزّ أركان الدّولِ، وعمله الأمنيّ استطاعَ التماسَ الشّارعِ والتقرّبَ من الطّبقة المثقّفة والكادحة. فمن يتقرّب منه يستنتج أنّهُ رجلٌ بسيطٌ، أبٌ، وأخٌ، ومعلّمٌ. وشخصيّته لم تتغيّر رغمَ كافّة الظّروف، ولكن بعدَ اندلاعِ الحربِ استطاعَ الشّعب السّوريّ التّعرّف عليهِ أكثر من خلالِ وسائلِ التّواصل الاجتماعيّ. لذلك لا يستغربُ المرء محبّةَ هؤلاءِ النّاس له حتّى وإن لم يكونوا برفقتهِ يوماً ما.
قادةُ الأجهزةِ الأمنيّةِ في سورية قدّموا إلى المجتمعِ هدية كبيرةً متمثّلةً في نزعِ فتيلِ الخوفِ بين المواطنِ والمخابرات، على عكس الكثيرِ من الدّول الأخرى العربيّة والغربيّة، فهذا الأمرُ عبءٌ مهمٌّ على كاهلِ الشّارعِ والدّولة الذي يتوجّبُ عليهم المحافظة عليه؛ ليكونَ سمةً تميّز الدّولة السّوريّة في المستقبل.