كتاب الموقع

تضخيم”قسد” وأحلى المُرّين

لم نكن بحاجة لمطالعات من فيلتمان أو فورد وأشباههما، لنعرف مدى الفشل الأمريكي في سوريا، بل إنّ الفشل كان هو الخيار الوحيد والطريق الإجباري، منذ اللحظة التي قال فيها الرئيس الأسد”خسئتم..وسنقاتل”، ولكن هذا الاعتراف الأمريكي بالفشل لا يعني التخلي عن الأهداف، فالأهداف الأمريكية في سوريا كانت وما زالت هي إسقاط الموقف السوري المتمسك بحقوقه التاريخية والجغرافية، وتفريغ الموقع السوري من مركزيته في محور المقاومة، وتقسيم الجغرافيا السورية وتفتيتها وتوزيع نُتفها بين القبائل، ولكن هذا الفشل الأمريكي يعني تغيير الأساليب، والمعضلة الرئيسية التي يعانيها هذا النهج ولن تكون حظوظه أبعد من الفشل، أنّ الولايات المتحدة لا تمتلك تغيير الأدوات، فالأدوات الأمريكية هي ذاتها من داعش إلى قسد إلى النصرة إلى أموال النفط إلى آخره مما يعرفه الجميع، وهذا ما يحدّ كثيراً من فعالية تغيير الأساليب وتقليم الخطط.

وما تسمى بـ”قسد” تعتبرها الإدارة الأمريكية الأداة الأكثر فاعلية راهناً، باعتبارها تسيطر على جغرافيا واسعة وتختزن احتياطات النفط والقمح، وهذا ما يجعلها في الاعتقاد الأمريكي عصىً للتقسيم تلوّح بها في وجه دمشق، كما تجعل منها عنصراً رئيسياً في تطبيق ما يُعرف بـ”قانون قيصر”، كذلك يجعل من المناطق التي تسيطر عليها عمقاً استراتيجياً لقوات الاحتلال الأمريكي في العراق، ورغم أنّ أردوغان هو أحد الأدوات الأمريكية، إلّا أنّ “قسد” أداة صغيرة قابلة للتلويح بها في وجه الأداة الأكبر والأثقل وهي تركيا أردوغان، وهذا ما يعتقده”القسديون” فيعتبروا أنّهم أداة على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية، وبالتالي فهي غير قابلة للتخلي الأمريكي، وهم يعتقدون بالجزم أنّ الولايات المتحدة لن تتخلى عنهم، طالما لم تتحقق لها الأهداف في سوريا، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أنّه لا توجد أداة غير قابلة للاستغناء، بل على العكس من ذلك، فقد تكون الأداة هي أول أوراق المحرقة، حيث يتم تقديمها ككبش محرقة، وتضخيم دور الأداة هو لتعظيم الثمن الذي سيُطلب مقابل التخلي عنها، وليس على سبيل الاحتفاظ الأبدي بها أو حمايتها، وهذا التضخيم هو الإطار الذي تتحرك به”قسد” حالياً.

 

قبل بدء ما يسمى”الربيع العربي” ساقتني الأقدار في أحد الأقطار لجلسةٍ فيها بعض الأكراد السوريين، والحقيقة أنّه قد هالني ما استمعت إليه، خصوصاً أنني لم أتعامل معهم من البداية باعتبارهم من ذوي الميول السياسية، وأنّهم مواطنون عاديون يمثلون عينةً من العقل الجمعي، ولكن لاحقاً عرفت أنّ لهم سوابق تنظيمية، فالشق الأول من المفاجأة أنّهم قارنوا بين الاحتلال”الإسرائيلي” لفلسطين، وبين الجيوش العربية في الأقطار التي يعيشون فيها، والجيش العربي السوري مثالاً، وأنّه اشترط موافقتي الرأي على أحقية مقاومة الاحتلال”الإسرائيلي” بموافقته على أحقيته في مقاومة الجيش السوري، مع ملاحظة أنّه في تلك الفترة لم يكن حتى بوادر لما يسمى بـ”الربيع العربي”، أمّا الشق الثاني من المفاجأة فهو ما كالوه من لعناتٍ على رأس صلاح الدين الأيوبي، وكنت أظنّ أنّهم سيفتخرون بكرديته، لكنهم ناقمون عليه أشدّ من نقمة صليبيي حطين، باعتباره الكردي الذي واتته فرصة تاريخية لإقامة دولةٍ كردية، لكنه لم يفعل، فأضاع الحلم الكبير، وهذا الخبل التاريخي والمستقبلي حين يتحوّل إلى قناعاتٍ وعقائد، يجعل من البشر مسوخاً لا تستقيم لهم قائمة، وهذا ما يجعل منهم أدواتٍ قابلة للاستخدام بنفس درجة قابليتها للحرق، والأخطر أنّها مسوخٌ غير قابلة للتطور أو التعلم، فمع كل منعطفٍ تاريخي، يدفعون حصتهم من الدماء والرقاب على مذبح الأوهام، وفي سبيل أهدافٍ امبراطورية استعمارية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

وهنا يتم الحديث عن أصحاب ميولٍ شاذة لهم مصالح شخصية، لا عن مكوّن سوري، فالسوريون جميعاً متساويين أمام القانون، فالإجرام لا أعراق له، فالداعشي العربي السوري مثلاً لا تشفع له عربيته أمام كردية القسدي السوري، فكلهم مجرمون، وكلهم استباحوا بلادهم وأباحوها للعدوان والمعتدين، وعلى”القسديين” أن يدركوا أنّهم دخلوا في مرحلة التضخيم، حتى إذا ما تم تقديم رؤوسهم لدمشق، تستطيع الولايات المتحدة أن تطلب ثمناً سياسياً، والحقيقة أنّ سوريا لا تساوم على الجغرافيا، وهذا أحد الثوابت الراسخة في السياسة السورية، وبينما تمارس الولايات المتحدة سياسة التضخيم، قد يكون لدمشق وحلفائها رأيٌ آخر، حيث يصبح الطرق على رأس هذه الأداة المضخمة هو وسيلة لإجبار واشنطن على تقديم التنازلات، فالعبث في الجغرافيا السورية ليست تستهويه عقلية الجمهورية العربية السورية، وهو دافعٌ للتصلب وتحريك الأصابع على الزناد، وليس دافعاً للتراجع وتقديم التنازلات، وعلى”قسد” أن تدرك أنّ السماء السابعة أقرب بكثير من دولةٍ على الجغرافيا السورية، وأنّ إقامة “إسرائيل” واحدة في الجنوب السوري في غفلةٍ تاريخية، لا يعني قابليتها للتناسل بثانيةٍ في الشمال السوري، وما عليهم سوى انتظار أحلى المرّين، فإمّا أن تقطف دمشق رؤوسهم باعتباره حقاً تاريخياً ووطنياً وسيادياً، وتكتيكاً سياسياً للضغط على رأس الولايات المتحدة، أو أنّ تقدم أمريكا رؤوسهم لدمشق على سبيل حسن النوايا أو المساومة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى