بين وقاحة بايدن ودبلوماسية بوتين.
رفعت ابراهيم البدوي | مستشار الرئيس سليم الحص .
اعتقدنا أن لغة التعالي والغطرسة الأميركية التي سادت إبان رئاسة دونالد ترامب ستختفي لمجرد خروجه من البيت الأبيض لكن الحقيقة أننا أخطأنا الاعتقاد، فها هو الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن يستعمل لغة أسوأ من لغة سلفه، حيث لم يسبق لرئيس أميركي أن وصف رئيس روسيا الاتحادية «بالقاتل» كما فعل جو بايدن الذي استرسل مهدداً ومتوعداً فلاديمير بوتين بدفع الثمن بعد اتهام الأخير بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمصلحة دونالد ترامب الأمر الذي أدى إلى فوزه وخسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
إذاً خرج الرئيس الأميركي جو بايدن عن كُل الأعراف الدبلوماسيّة في تهجمه على الرئيس الروسي بوتين وربّما نشهد المزيد خصوصاً بعدما أصر بايدن على ما صرح به رافضاً الاعتذار.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفي معرض رده على اتهامات بايدن كان في قمّة الدبلوماسية حين خاطب جو بايدن قائلاً: «الكلام صفة المُتكلّم وكُل إناءٍ ينضح بِما فيه وأتمنّى لك الصحّة والعافية» مكتفياً بإجراء سحب السفير الروسي من واشنطن للتشاور ردّاً على وقاحة بايدن المستفزة.
قد يبدو للبعض أن وقاحة بايدن مبررة خصوصاً إذا ثبت صحة اتهامه لروسيا بلعب دور سلبي في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية والمشاركة في عدة هجمات سيبيرانية ضربت مواقع أكثر من 30 دائرة حكومية أميركيّة أمنية واقتصاديّة، ألحقت بها أضراراً ماديّة ومعنويّة ضخمة.
لكن حقيقة حنق بايدن على بوتين ليس بسبب تدخّل روسيا في الانتِخابات الأميركيّة التي قادت ترامب للبيت الأبيض والذي خدم الروس بتقويض هيبة أميركا مهدداً وحدتها الداخلية كما يدعي بايدن وإنّما جوهر القضية هو إصرار أميركا الاستمرار بإدارة العالم وبشكل أحادي كما سبق ولعقود خلت ورفضها الاقتناع بأن الحال لم يعد كذلك وأن العالم صار متعدد الأقطاب ولشعور بايدن بأن دور أميركا الأحادي في إدارة العالم آخذ بالتراجع السريع لمصلحة التّحالف بين قوّتين عُظميين، الأولى الصين الآخذة بالصعود والتربع على عرش العالم اقتصادياً والثّانية قديمة جديدة واسمها روسيا التي تمكنت التعافي من أزَماتها ورممت اقتصادها وأعادت هيبة ترسانتها العسكريّة وهي آخذة في استعادة مكانتها الدولية وخصوصاً في منطقتنا شرق المتوسط.
لقد خبر كل من تعامل مع الإدارة الروسية برودة أعصاب فلاديمير بوتين وعدم لجوئه للانفعال مهما كانت الظروف ولقد خبرنا ذلك في حادثة إسقاط تركيا أردوغان للسوخوي الروسية قبالة السواحل السورية فكان رد بوتين معاقبة أردوغان اقتصادياً ما أرغم الأخير على تقديم اعتذار رسمي لبوتين في موسكو بعد انتظار أردوغان في صالون جانبي دام لأكثر من ربع ساعة قبل أن يسمح له بالدخول لمكتب بوتين.
كما خبرنا بوتين في حادثة مماثلة حين قام العدو الإسرائيلي بإسقاط طائرة روسية فوق السواحل السورية ذهب ضحيتها 15 من خيرة ضباط روسيا الأمر الذي استدعى توجه نتنياهو إلى موسكو مسرعاً لتقديم اعتذار رسمي إلى بوتين الذي اضطر للانتظار في الصالون الجانبي فترة ليست بالقصيرة قبل أن يطل بوتين لاستقباله.
الأمْر المُؤكّد أن روسيا بوتين نجحت في وضع إستراتيجية من أجل توثيق تحالفات جديدة مع كل من الصين وإيران وفنزويلا وكوريا الشماليّة والهند مع إفساح المجال لدول أخرى والقائمة على أساس تشبيك المصالح بين الدول ما يسهم بتفكيك القبضة الأميركية عن مصالح الدول المشاركة في التحالف بحيث تكون المواجهة جماعية وليس بالاستفراد كما فعلت الإدارات الأميركية المتعاقبة.
الفرق بين أميركا وروسيا هو أن الأولى تريد إدارة العالم من خلال الاستحواذ والسطو على ثروات الدول حتى لو استلزم الأمر تفتيت أسس الدولة والمجتمع وافتعال الحروب وقتل مئات آلاف وتشريد الملايين من الأبرياء.
أما روسيا بوتين فهي تسعى إلى عالم متوازن بعيد عن الأحادية قائم على مبدأ المشاركة في الإدارة وتشبيك المصالح وبعيداً عن الاحتراب.
روسيا ومن خلال سورية استطاعت العودة إلى المسرح الدولي وبزخم مؤثر مكنها من كسر طوق الأحادية الأميركية ما أكسبها ثقة وسمعة طيبة، الأمر الذي منحها التقدم للعب دور الوسيط النزيه خصوصاً أن روسيا تحظى بعلاقات جيدة إلى ممتازة مع معظم دول العالم ودول منطقة الشرق الأوسط وحتى مع الكيان الصهيوني.
الإدارة الأميركية قررت التفرغ لمواجهة الصين وروسيا واضعة منطقة الشرق الأوسط في حال الفوضى والانتظار بنتائج مبهمة.
روسيا وبحكم موقعها الجيوسياسي تعتبر الأقرب لدول الشرق الأوسط وحال الانتظار والفوضى والإرهاب الذي تريده أميركا لمنطقتنا لن يكون بمصلحة روسيا لا سياسياً ولا اقتصادياً.
جولات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف والمبعوث الرئاسي لبوتين لافرنتييف على دول الخليج للقول أنا الضامن الجديد على أسس تهدئة الساحات الملتهبة وشراكة في الإدارة وتشبيك للمصالح.
في هذا السياق تأتي زيارة وفد حزب اللـه اللبناني إلى موسكو واجتماعه مع كبار المسؤولين الروس التي منحت الحزب اعترافاً بدوره كلاعب مهم ولا بد منه في الإقليم ثم أعقب ذلك زيارة موفد رفيع من الكيان الصهيوني لموسكو الذي سمع نصيحة روسية بعدم تجاوز الخطوط الحمراء في سورية مرفقة بتحذير روسي من مغبة أي مغامرة عسكرية ضد إيران.
بين وقاحة بايدن ودبلوماسية بوتين سنشهد تبدلاً في الأدوار والأولويات فالمنطقة نحو تطويق التفجير ولجم الجموح الأردوغاني في سورية وليبيا ومصر وضبط سلوك الكيان الصهيوني والحفاظ على دور سورية الريادي في المنطقة والعمل على تبريد الساحات برعاية روسية وبضمانة خليجية والتوجه نحو شراكة في الإدارة وتشبيك للمصالح وهو العامل الذي تعتبره روسيا الفرصة التاريخية للفوز على الأميركي بالنقاط ما يتيح لروسيا الولوج بحلول لأزمات المنطقة قد يعيد لها توازنها المفقود.