“الانحياز” أقلّ كلفة من “الحياد”
لم تكن الجمهورية الأولى أقلّ خيانة لمفهوم الدولة والمواطنة من الجمهورية الثانية، لكنها كانت أكثر خجلاً في تكريس مصالح الطوائف والمذاهب الضيّقة على حساب المصالح الوطنيّة.
حسين قطايا | صحافي في قناة الميادين .
تصحّ تسمية “اتفاق الطائف” المؤسس للجمهورية اللبنانية الثانية، باتفاق الطوائف على الكثير، ما عدا قيام الجمهورية ذاتها، عبر تكريس أعراف التحاصص المذهبي المانع لقيام “الدولة”، التي، وإن قامت، فإنها ستحرم آليات التحاصص من وظيفتها الرئيسية في الإمعان بالفساد المالي والإداري الذي يطلق العنان لأسوأ أنواع الفساد السياسي للتمدد ومنع نشوء دولة وطنية جامعة وتعزيز كلّ ما يمكنه أن يعترض مفهوم المواطنة.
لم تكن الجمهورية الأولى أقلّ خيانة لمفهوم الدولة والمواطنة من الجمهورية الثانية، لكنها كانت أكثر خجلاً في تكريس مصالح الطوائف والمذاهب الضيّقة على حساب المصالح الوطنيّة.
التجربتان الإصلاحيّتان للرئيسين فؤاد شهاب وإميل لحود خرجتا من رحم المؤسّسة العسكريّة، بوصفها معقل حماة الوطنية الأول، وراوحتا في اليتم في تاريخ لبنان الحديث، وغابتا عن طموحات زعماء الجمهورية الثانية الذين رفعوا شعار “قيام الدولة” مع لازمة صفتها العادلة، لتمويه مقاصد بعيدة كلّ البعد من الشعار المرفوع.
واجه الرئيس فؤاد شهاب والرئيس إميل لحود بين خصومهما قلَّة ممن يختلفان معها حول المشاريع الوطنية الجدية، وكثرة من إقطاعيي السياسة وتجارها، بحسم خيارهما في الداخل بمواجهة الفساد، وفي الخارج بالانحياز (لا بالحياد) إلى جانب مقاومة الهيمنة واغتصاب الحقوق.
لكلّ طائفة أحوالها الشخصية ومدارسها ومستشفياتها ومصارفها وإعلامها، أي أنها دويلة لا تستمر إلا بنفي الدولة على الدوام واعتبارها لحظة آفلة تؤمن مكان وزمان توزيع الثروة “الوطنية”، وتتيح للدويلات الاستعانة بالخارج للاستقواء على الداخل، وتشرع النوافذ أمام المال السياسي الخارجي، كي يحول الساحة المحلية إلى ساحة مواجهة إقليمية ودولية.
من الغريب والمدهش أنّ النهج أو العقلية التي صنعت “جمهورية” كهذه يتمسك أصحابها اليوم بطرح متجدد لنظرية “الحياد”، بتشدد يشي بتجاهل هؤلاء لحقائق في التاريخ والجغرافيا، ولوقائع وتجارب، وبقفز فوق علوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ودعوة لممارسة سلوك طائر النعام بدفن الرأس بالرمال، لا لشيء سوى النكايات السياسية الخاوية، وبلا اكتراث إلى أن نظريتهم “الحيادية” تتوافق بدقة مع بنود وأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية التي أرادت بعد التوقيع على اتفاقية “كامب ديفيد” (1978) مع مصر، أكبر بلد عربي، إخضاع البلدان العربية الصغرى وإخراجها من حلبة “الصراع الوجودي”، وفي طليعتها لبنان، الذي عاكست “قواه الحيوية” كل التوقعات “الاستسلامية”، وأجبرت مقاومته الاحتلال على الانسحاب بلا قيد أو شرط، ولأول مرة في تاريخ الاحتلال الصهيوني لأراضٍ عربية.
كلّ هذا وغيره الكثير مما يمكن أن يضاف ويخفيه “الحياديون”، بسذاجة أحياناً، وبتورط في أحيان أخرى، مع كل ما يهدف إلى إضعاف المقاومة، لكونها “القيمة الوطنية”، وحيدة وموحدة، والتي كان يمكن اعتمادها، وما يزال، أرضية صلبة لانتقال الحالة اللبنانية من “نظام” مزاعم الدولة إلى الدولة الوطن والمواطنة.
يتمسك الخطاب الحيادي المتجدد باتفاق الطائف بعد ثلاثة عقود على توقيعه، كخشبة خلاص من حرب وقعت أو ستقع في حال سقوط الاتفاق، أي أنهم يضيفون إلى غموض مخاوف اللبنانيين “الغرائزية” من بعضهم بعضاً، غموض المشروع الحيادي الذي لم ينجح، ولو لبرهة، منذ “الاستقلال الملتبس”.
فضيلة الواقعية والعقلنة بعيدة عن حياديي اليوم، كما كانت مع حياديي الأمس. لا فروقات بينهما ولا تمايز. وفي كلا الحالين، حال واحد يؤول إلى الانضواء تحت السيطرة الغربية والعودة إلى زمن الاستعمار البائد، لكن بشكل مقنّع يتغلّف بتآكل النظام، ليبرر الاستنجاد بالمجتمع الدولي المتكئ على عجز داخلي يبرر في سياقه “التبعية” بسلاسة تعيد لبنان إلى الشعار الهزلي: “قوة لبنان بضعفه”، الذي كان سائداً عند الحياديين الأوائل.
قوة لبنان اليوم بمقاومته، وهي قوته الوحيدة والفعلية والمتكاملة التي لا تعتمد على إعداد الصواريخ فحسب، بل إن قوتها الحقيقية والاستراتيجية تستند إلى حاضن اجتماعي واسع وعميق تعرّض لحروب من كل الأنواع، وعلى كل الجبهات، من “عدوان تموز” 2006 إلى “عدوان أيار” 2007، وما تلاهما من أحداث كبرى هزت أركان المنطقة.
صمد هذا البعد الارتكازي، وما زال يستمر في صموده وفي صده الهجوم الثنائي من الخارج والداخل، على أمل الانتقال من “المزرعة” إلى الدولة الوطنية المستقلة التي لا تحيد بالضرورة عن حقوقها. وفي كل الأحوال والحسابات، كلفة الانحياز إلى الحق أقل من كلفة الحياد عنه في السياسة والأخلاق.
الآراء الواردة في المقالة تعبّر عن رأي كاتبها .