أليكسي نافالني بيدق صغير في لعبة الأمم الكبرى.
حبيب فوعاني، صحافي لبناني مقيم في موسكو
لا يزال تفكك الاتحاد السوفياتي في سنة 1991 يرخي بظلاله على ما يحدث في عالم السياسة الكبرى، وسيبقى كذلك أمدا طويلا، ولا سيما أن ما حدث كان زلزالا فجائيا عنيفا فاق كل التوقعات والتنبؤات.
وهو كان لفريق من الروس مأساة حين فقدوا الدولة العظمى، التي بنيت خلال عقود، وفقدوا ما ادخروه من النقود للأيام السوداء من جراء تعويم العملة الوطنية.
أما لآخرين فكان فرصة حياة لا تعوض، حيث استحوذوا على ثروات الأجيال في عهد الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين بأبخس الأثمان تحت اسم الخصخصة، التي قادها “أبو الأوليغارشيين الروس” أناطولي تشوبايس.
آنذاك كان عمر أليكسي نافالني 15 عاما. ولذا، أصبح يتسابق مع الزمن للحاق بركب القطط السمان ونيل حصته من الكعكة الكبرى.
بيد أن الفشل المتواصل في شبابه واكب محاولاته الكثيرة في البيزنس، ما جعله يفكر في استخدام السياسة لإرضاء غروره. وقد أكد أنصاره السابقون غياب أي طموحات سياسية لديه آنذاك، وأنه كان يريد النجاح في حياته وكسب النقود.
لكن “المستغربين”، كما كان يسمي دوستويفسكي “اللبراليين” الروس، في مطلع الألفية الثالثة، أرادوا استخدامه لتحقيق أهداف أسيادهم. فاحتضنته حينا من الزمن إذاعة “صدى موسكو”، التي أسسها رئيس المؤتمر اليهودي الروسي السابق الأوليغارشي فلاديمير غوسينسكي.
ثم في سنة 2005 غادر العاصمة ليصبح مستشارا لحاكم مقاطعة كيروف اللبرالي نيكيتا بيليخ، الذي يقبع الآن في السجن بتهمة الرشوة. غير أن نافالني لم يستخدم هذه الوظيفة لنشر أسس اللبرالية والديمقراطية ومحاربة الفساد، بل لممارسة تجارة الأخشاب المشبوهة دائما.
وقد كان عرض الفيلم عن “قصر بوتين” المزعوم، قبل أسابيع تنفيذا للمهمة الموكلة إلى محارب طواحين الهواء العظيم ممن تعشش في رؤوسهم أفكار “الحرب الباردة”، التي تستعر من جديد.
إن هؤلاء البيروقراطيين يدركون استحالة المواجهة العسكرية مع روسيا، ولذا لا يكفون عن شن معارك سياسية واقتصادية وفكرية أخرى مع روسيا ما بعد السوفياتية بأيد روسية وتمويل غربي. وهي لن تنتهي في رأيهم إلا بجعلها دولة إقليمية.
وأصبح فيلم نافالني الوثائقي، الذي عرض قبل أسابيع، رأس الحربة في المعركة السياسية ضد الرئيس الروسي. وهو يتمتع بتقنية عالية وجودة رفيعة، تدلان على حجم تكلفته والجهد المبذول في إعداده وضخامة الفريق الأممي، الذي عمل على إخراجه.
إنه يشبه باحترافيته الأفلام الوثائقية، التي كان يصورها إرهابيو “داعش”. ولكن، إذا كانت المنظمة الإرهابية تخوف الناس بمشاهد الذبح، فإن نافالني ومعاونيه لجأوا إلى أمر بالغ الحساسية هو الفساد، وهم أرادوا بذلك إثارة استياء المواطنين الروس، الذين أناخ عليهم الفيروس التاجي بكلكله، وأثر فيهم الركود الاقتصادي العالمي، فأصبحوا يرزحون تحت عبء الخوف من البطالة والمستقبل، ذلك رغم تمكن روسيا من التغلب على هذه الأزمة بنجاح كبير مقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا… نافالني أراد القول لهؤلاء إنكم تعانون، لإن فلاديمير بوتين وبطانته سرقوا أموالكم، ولأنهم يبذخون بالضرائب التي تسددونهم بجهد للدولة، ويبنون بها القصور الخرافية المترفة.
جدير بالذكر أن أنصار “الديمقراطية وحقوق الإنسان” من الساسة والصحافيين الغربيين، الذين يتباكون على مصير نافالني، يتناسون أن حزب “يابلوكو” اللبرالي المعارض طرده في سنة 2007 بعد مشاركته في مسيرة للقوميين العنصريين الروس وإعلانه تأييده للقومية الروسية المتشددة.
ويتناسى هؤلاء أيضا كيف دعا في سنة 2008 إلى طرد جميع مواطني جورجيا القوقازية من روسيا، وأطلق عليهم تسمية مهينة هي “القوارض”.
يتناسى ذلك أيضا دبلوماسيو دول البلطيق والدبلوماسيون الغربيون، وهم يهرعون إلى المحكمة لحضور محاكمة نافالني، وتشنيف آذانهم بالإهانات، التي يوجهها موسوليني الروسي إلى القاضية.
أتعرفون لماذا؟ يؤكد موقع “РУССКАЯ ВЕСНА” وموقع “Aftershock” الروسيان أن مسؤولي “سي آي إيه” الأمريكية و”إم-16″ البريطانية قد فرغوا نهائيا من دراسة ملف “محارب الفساد” العنيد في أواخر سنة 2007، وأعطوه اسما مستعارا هو “Freed”، وتوصلوا إلى ضرورة تنظيم دعم مالي متواصل له لتنفيذ مهماته في إطار العملية الخاصة “Quake” الهادفة لتقويض النظام الدستوري الحالي في الاتحاد الروسي. وقد لعب الدور الأكبر في ذلك رجل الأعمال البريطاني وليام براودر، الذي كان يعمل في روسيا، ويعمل لديه المستشار القضائي الراحل سيرغي ماغنيتسكي، الذي وضع القانون المشهور باسمه.
ولكن، ليس معلوما الآن سبب تجاهل غالبية وسائل الإعلام العربية “الغيورة على الديمقراطية في روسيا” معارضة نافالني المتعصبة لبناء المساجد والحجاب، وسخريته من صلاة المسلمين في الشوارع حول مسجد موسكو في عيدي الفطر والأضحى، وازدراءه الوافدين المسلمين كافة إلى العاصمة من داخل روسيا أو خارجها.
وليس هذا وحسب، فنافالني النرجسي المغرور ينافح “اللبراليين” الروس كلهم وعلى رأسهم “كبيرهم الذي علمهم” الخصخصة، أناطولي تشوبايس، وقد وصفه بأنه “عضو قديم في اتحاد شبيبة الكومسمول السوفياتي، وبأنه يقوم على خدمة فلاديمير بوتين”.
أليكسي نافالني يشبه يلتسين في غطرسته وتهوره وانقياده الأعمى للغرب، الذي وضع روسيا على شفا الانهيار. ومهما كانت نظرتنا إلى بوتين، فإنه نجح في إنقاذ بلاده من هذا المصير، وذلك ما لم يغفره له بيروقراطيو الغرب.
ولئن كان يلتسين قد استقال من منصبه طالبا المغفرة من شعبه لعدم تمكنه من تحقيق رغباتهم، ولعجزه عن تحقيق الآمال بنقل “روسيا من ماضيها الرمادي الشمولي إلى مستقبل زاه وزاهر ومتمدن”، فإن نافالني المكابر لن يفعل ذلك أبدا. والغربيون لن يتوانوا عن استخدام حصان طروادة الروسي حتى النهاية، ولكن أي نهاية؟