تساؤلات حول الإرهاب .
الياس فرحات | عميد ركن – باحث لبناني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية .
يغلب على الخطاب السياسي لمعظم دول العالم، إن لم يكن جميعها، نبذ الإرهاب واستنكاره والدعوة الى مكافحته. إذا كان هذا الخطاب صحيحاً، نتساءل: لماذا لا نزال نشهد أعمالاً إرهابية في العديد من أنحاء العالم؟ ولماذا ينمو الإرهاب بشكل تنظيمات إرهابية، القاعدة وداعش وغيرهما، ويتمدد في آسيا وـفريقيا والشرق الأوسط ويضرب في أميركا وأوروبا؟
عام 2001 وإثر أحداث 11 أيلول / سبتمبر، أعلن الرئيس الأميركي في حينه جورج بوش الحرب على الإرهاب وشنت الولايات المتحدة هجوماً عسكرياً على أفغانستان واحتلت البلاد وأطاحت بحكم حركة طالبان وشكلت قوة احتلال دولية “ايساف” التي انتشرت في جميع أنحاء أفغانستان. جرى تبرير تلك الحرب على أنها رد على هجمات 11 سبتمبر.
بعد سنتين وفي عام 2003، شنت الولايات المتحدة ودول حليفة لها غزواً للعراق بذريعة حيازته أسلحة دمار شامل، ورعايته للإرهاب وتشكيل تهديد لدول الجوار. تبين ان هذه الذرائع غير صحيحة كما ان فريق التفتيش الدولي لم يعثر على اسلحة دمار شامل. كما ثبت ان الدلائل التي عرضها وزير الخارجية الاميركي في حينه كولن باول في مجلس الأمن لم تكن صحيحة.
لكن عملية “تحرير العراق” كما سمّتها القيادة الأميركية، لم تقضِ على الإرهاب بل على العكس تسببت في انتشاره في أنحاء العراق. كان العراق تحت قيادة صدام حسين القومية العربية العلمانية على خلاف أيديولوجي مع المنظمات الإرهابية المتشددة دينياً مثل القاعدة. بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق، انتشر الإرهاب في العراق ومنطقة الشرق الأوسط ووصل الى بلاد لم يتواجد فيها من قبل .
كان الوجود الإرهابي في العراق يقتصر على خلايا نائمة مع معاقل قليلة في مدن مثل الفلوجة حيث كان معظم السكان يحتجون على سياسة الحكومة العراقية ويتهمونها بالتمييز ما بين الشيعة والسنة وبحرمان السنة من حقوقهم الوطنية.
بدأت الازمة في سوريا في 15 آذار / مارس 2011 عندما اندلعت تظاهرات في معظم مدن البلاد. في مطلع 2011، دخلت مجموعات من تنظيم القاعدة الى سوريا قادمة من العراق وجرى تعزيزها بمجموعات متعددة الجنسيات من تركيا تحمل أيديولوجيا القاعدة. وهكذا انتشر جيش من تنظيم القاعدة في بلاد الشام- جبهة النصرة على الجانب السوري من الحدود السورية التركية بقيادة ابو محمد الجولاني (اسمه الحقيقي حسين الشرع).
كان أبوبكر البغدادي قائداً لتنظيم القاعدة في العراق الذي كان يحمل اسم “دولة الاسلام في العراق”. وكان الجولاني مرؤوساً له ويتبع أوامره. في نيسان/ ابريل 2014 عبرت مجموعات مرتبطة بالقاعدة الحدود السورية مع تركيا وسيطرت على مدينة الرقة، وكانت أول مركز محافظة تسيطر عليه تماماً قوات إرهابية معارضة للنظام.
دخل البغدادي سوريا قادماً من العراق وأعلن قيام “دولة الإسلام في العراق والشام”. رفض الجولاني أن يبايعه ونشبت حرب بين الفريقين أدت الى مقتل نحو ستة آلاف إرهابي من الجهتين.
في حزيران / يونيو 2014 دخلت قوات “دولة الإسلام في العراق والشام” التي عرفت بـ”داعش” الى العراق وسيطرت بشكل مفاجئ وسريع على محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى وقسم من شمال بابل في منطقة جرف الصخر بمحاذاة بغداد حيث غالبية السكان ينتمون الى الطائفة السنية. وسرعان ما أعلن البغدادي قيام الخلافة الإسلامية واعلن نفسه خليفة للمسلمين، أي قائدهم الروحي والسياسي والعسكري. جذبت الخلافة بعضاً من الشباب المسلم وانشق عدد من قادة “القاعدة” وأعلنوا انضمامهم لدولة الإسلام بقيادة “الخليفة أبو بكر البغدادي”.
وهكذا ولدت منظمة إرهابية جديدة ومتوحشة. انتنشرت داعش والقاعدة كجيوش ارهابية في عدد من الدول مثل سوريا والعراق وليبيا والصومال ونفذتا أعمالاً ارهابية فيها كما انتشرت في غرب افريقيا وشمالها وفي جزيرة العرب وشبه القارة الهندية واوروبا والولايات المتحدة.
جيوش الارهاب
تعمل المنظمات الارهابية عادة بشكل خلايا نائمة تستيقظ لتقوم بهجوم ارهابي مفاجئ. بعد الاطاحة بنظام طالبان في افغانستان، لم يعد هناك أرض آمنة للإرهاب. وحدها منطقة جبال وزيرستان وفّرت الملجأ لحركة طالبان، كما وفرت القاعدة وداعش ملاذاً آمناً وحرية عمل في شمال العراق وشمال سوريا.
وصل الى العراق وسوريا عبر تركيا آلاف المقاتلين ممن سمّوا أنفسهم مجاهدين واعتبروا انهم تركوا موطنهم ووصلوا الى أرض الجهاد لينفذوا ما اعتقدوا أنه فريضة دينية. من بينهم جاء العديد من القوقاز في روسيا ومن آسيا الوسطى ومن مقاطعة شينجيانغ في شمال الصين من مكوّن الإيغور المسلمين.
لم تكن هذه التحركات فردية، ومن المؤكد أن تكون منظمات ودول قامت بتعبئتهم وتأمين حرية التنقل لهم حتى وصولهم الى تركيا. وهكذا انتشر جيش من “القاعدة” شمال غرب سوريا وجيش من “داعش” في الشمال الشرقي ولم تعد هناك حدود بين العراق وسوريا.
تألف كل من الجيشين من قيادة وأركان وشيوخ الشريعة ومحاكم شرعية وجنود. تلقى الجنود تدريباً على استعمال أنواع عديدة من الأسلحة وعلى تحضير متفجرات ومفخخات وزرع الألغام. كان جهاز القيادة والسيطرة متطوراً ومعقداً وكانت أجهزة الاتصالات منيعة من التشويش أو استراق السمع على الأقل من قبل الجيشين السوري والعراقي.
ظهرت على شاشات الفضائيات ولمرات عديدة مئات من سيارات جيب تويوتا جديدة تحمل عناصر من داعش والقاعدة. هذا وغيره يدفعنا لطرح أسئلة عديدة منها :
1-من المحتم أن يكون ضباط عسكريون محترفون قد أعدوا هيكلية القيادة والسيطرة، وأن هؤلاء الضباط يدركون تماماً جغرافية المنطقة والعدو وموارده وإمكاناته وثقافة السكان وعاداتهم. لقد وصل “الجهاديون” من بلدان مختلفة ومن إثنيات ولغات وثقافات متعددة ويحتاج ذلك الى ضباط ذوي خبرة من أجل انشاء الوحدات القتالية وأنظمة القيادة والسيطرة
2-وصلت تجهيزات “الجهاديين” من أسلحة وآليات ومعدات لوجستية مختلفة الى داخل الحدود السورية قادمة من تركيا، وهي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي. ومن الثابت أن السلطات التركية هي على علم بتدفق الأسلحة والمقاتلين ومنحتهم تسهيلات في المناطق الحدودية ومكّنتهم من عبور الحدود بسهولة .
تم استيراد الآلاف من الآليات من اليابان ومن بلدان أخرى ووقعت في أيدي داعش والقاعدة. لقد تم شحنها وعبرت محيطات وبحار ووصلت الى سوريا والعراق عبر دول مجاورة. هذا ليس مجرد تهريب. إنه عملية لوجستية تحتاج الى مساعدة دول ذات سيادة لإنجازها. كما أن شحن الآليات يتطلب خبرة شركات شحن دولية، ويتطلب تحويل ثمنها من الشاري الى البائع أعمالاً مصرفية تخالف قرار مجلس الأمن رقم 1373 المتضمن تدابير لمكافحة الإرهاب. لم يكشف النقاب عن هذه التدابير من المجتمع الدولي ولم يقدم أحد تبريراً منطقياً لنمو وتطوير هذه الجيوش الإرهابية وخصوصا أنها نمت على حدود حلف شمال الأطلسي.
3- سيطرت “داعش” على العديد من حقول النفط في شمال سوريا. تحدث سياسيون ومراسلون صحافيون من جميع أنحاء العالم عن بيع “داعش” للنفط الخام وتمويل نفسها من عائدات البيع. وهنا نطرح سؤالاً من اشترى هذا النفط؟ وكيف دفع ثمنه؟ يجب اعتبار أي شارٍ مسؤولاً عن شراء بضائع مسروقة وتمويل منظمة إرهابية. يجب أن تكون الحكومة التركية على دراية بكل من اشترى النفط من “داعش” وخصوصا المصافي التي تخضع لسلطتها. لم تسجّل أية مساءلة دولية حول الاتجار غير الشرعي بالنفط لتمويل منظمات إرهابية.
4-انضم الى تنظيمي داعش والقاعدة آلاف الرعايا من الدول الأوروبية وتمتعوا بحرية الحركة والانتقال من بلدانهم حتى وصولهم الى سوريا. كان يجب على السلطات الأمنية الوطنية ان تحددهم وتوقفهم قبل انضمامهم إلى هاتين المنظمتين وارتكاب هجمات إرهابية. لم تتخذ تدابير جدية خلال سنوات لوقف تدفق “الجهاديين” من أوروبا الى سوريا عبر تركيا.
الإعلام والثقافة
غالباً ما تستعمل وسائل الإعلام والسياسيون ومراكز الأبحاث تعبير الإرهاب، لكن ما هو الإرهاب؟ هناك تعريفات مختلفة للإرهاب ولا يوجد تعريف موحد للإرهاب تلتزم به الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
بإمكان أي دولة أن تضع أي منظمة على لائحة إرهاب خاصة بها. مثلاً الولايات المتحدة تدعم “وحدات حماية الشعب الكردية” في شمال سوريا وتزوّدها بأسلحة وآليات قتالية، فيما نجد تركيا حليفة الولايات المتحدة وشريكتها في حلف شمال الأطلسي تضع هذه الوحدات الكردية على لائحة الإرهاب. وهنا يتضارب موقف حليفين وعضوين في حلف شمال الأطلسي تجاه منظمة ناشطة ما إذا كانت إرهابية أم لا.
تبنى مجلس الأمن في الامم المتحدة قرارات وضع فيها منظمات مثل داعش والقاعدة وفرعها في سوريا تنظيم القاعدة في بلاد الشام- جبهة النصرة على لائحة الإرهاب. ولهذا نرى أن بعض الدول تأخذ بعين الاعتبار مصالحها حين تحدد المنظمات الإرهابية وليس مبادئ القانون الدولي ولا قرارات الأمم المتحدة.
في حالة سوريا والعراق وأفغانستان ودول أخرى هناك دول محددة ترعى الإرهاب وتدعمه ولم يكن الإرهاب وليداً لأسباب ثقافية ولا لممارسة الطقوس الدينية، كما يدعي البعض.
ما كان ممكناً أن تقوم قائمة لـ”طالبان” من دون دعم باكستان. كما لم يكن ممكناً انتشار “القاعدة” وداعش على الجانب السوري من الحدود التركية السورية من دون دعم تركي. وليس صدفة أن تنمو هذه المنظمات الإرهابية وتكبر قرب الحدود التركية. فالدعم التركي ضروري وأساسي لإنشاء هذه المنظمات وتنشيطها وبقائها.
يرى بعض الباحثين علاقة بين الإرهاب من جهة والدين والثقافة من جهة أخرى. ويركز البعض على الشعارات التي تدعو الى إنشاء دولة إسلامية. هذه الشعارات والأفكار هي عميقة في التاريخ وتعود إلى قرون خلت عندما كان العالم العربي تحت سلطة الخلافة الإسلامية. عاش سكان دولة الخلافة من مختلف الأديان والاثنيات معاً في الدولة الأموية والعباسية والعثمانية. كان ذلك بفضل تعاليم الدين التي تشجّع على التعايش بين مختلف الأديان وتدعو الى المساواة والعدالة بين الجميع.
خلال أربعة عشر قرناً مضت، تعايش الناس من مذاهب مختلفة: السنة والشيعة والدروز والإسماعيليين والعلويين والمسيحيين بمختلف طوائفهم وبنوا حضارة في الشرق. وهذا يناقض تماماً فكر القاعدة وداعش برفض الفكر الآخر وتدمير كل مظاهر الحضارة الإنسانية وتراثها.
يروّج بعض الباحثين الى النزاع السني الشيعي الذي وقع منذ ثلاثة عشر قرناً ويعتبرون أن النزاعات الحالية هي جزء من النزاع الأساسي وامتداد له. ربما يكونون على حق في منطقة وسط العراق، ولكن عندما نصل الى شمال العراق يتحول النزاع الى إثني بين العرب والكرد وكلاهما يتبع المذهب نفسه أي السني الحنفي.
في مصر هناك نزاع بين أبناء المذهب الواحد بين مؤيدي الجيش ومؤيدي جماعة الأخوان المسلمين. في ليبيا هناك نزاع بين أبناء الشعب الواحد والمذهب الواحد يتخذ شكلاً جهوياً، أي شرق غرب أو قبائلياً.
الإرهاب إذن ليس منتجاً أيديولوجياً أو مذهبياً بل هو من صناعة دول تستخدمه لتحقيق مصالحها من خلال أقنية سوداء أي أجهزة استخبارات.
خلال النظام العالمي القديم ثنائي القطبية كانت هناك حرب باردة. في هذه الحرب كان كل قطب يحارب الآخر عبر منظمات أو دول وكيلة. وكانت النزاعات تنتهي عندما تتفق القوتان القطبان على تسوية النزاع.
في أيامنا هذه، لا نعرف بعد ما اذا كان النظام العالمي أحادي القطبية أو ثنائي القطبية في بعض المناطق. في هذا الوقت الرمادي من المرجح أن تستعمل بعض الدول منظمات إرهابية لتحقيق مصالحها. وعندما يحدث هجوم إرهابي ويؤدي الى خسائر في الأرواح وأضرار في البلاد واقتصادها واستقرارها، يجري اتهام الإرهابيين من دون ذكر الدول التي تدعمهم. وهذا واضح في حالتي القاعدة وداعش. وفي الوقت نفسه تتظاهر دول داعمة للإرهاب بأنها تحاربه، لكنها تتجنب الإجابة على أسئلة مثل من أحضر سيارات “التويوتا” الى داعش؟