لماذا تتعثر ولادة الحكومة في لبنان ؟
عمر معربوني – باحث في الشؤون السياسية والعسكرية
تختلف المقاربات حول تشكيل الحكومة اللبنانية ، تتقارب أحياناً وتتباعد أحياناً أخرى ، وتبقى معظم هذه المقاربات انعكاساً للسجال الظاهر على السطح ، وقليلة هي محاولات سبر أعماق الأزمة التي تتجاوز برأيي الشكل لتندرج في البحث الدقيق عن طبيعة هذه الأزمة ومكوِّناتها الحقيقية .
على مدى سنتين وتحديداً منذ مطلع سنة 2019 كانت ملامح تشكل الأزمة بادية وواضحة ولا تحتاج من ذوي المعرفة والبصيرة كثير عناء لتعريفها وتلمُّس تداعياتها ، فالقصّة معلومة وابطالها ظاهرون .
في التعريف لا بدّ من الإعتراف أنّنا أمام ازمة نظام ، وهي أزمة بنيوية وعميقة ولا يمكن معالجتها بتسويات هشّة ، فقد ولّى زمن التسويات وبتنا بحاجة الى حلّ يجدّد العقد السياسي والإجتماعي بين اللبنانيين يتناسب مع طبيعة التحولات المحيطة بلبنان .
وفي سردٍ سريع لبداية تشكُّل الأزمة في عمقها الحالي يجب ملاحظة أنّ إثنين من رعاة اتفاق الطائف وهما الأميركي والسعودي قرّرا الإنقلاب عليه في لحظة اعتقدا فيها أنّ ما حصل في العراق بالحرب يُمكن تحقيقه في سورية ولبنان بالضغط .
فالقصة بدأت مع زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن بأول الى سورية ولبنان بعد اقل من شهر على إحتلال العراق وسلسلة المطالب – الإملاءات التي طلب تنفيذها وهي تتمحور بمجملها حول ضرورة تفكيك محور المواجهة بوجه كيان الاحتلال إن كان لجهة فك الإرتباط بين سورية وايران او لجهة وقف دعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ، وهو ما قوبل بالرفض من الرئيسين بشار الأسد وإميل لحود .
منذ ذلك الوقت فقد الطائف قيمته ودخل الى غرفة العناية الفائقة منذ خروج القوات السورية من لبنان وفقد لبنان القدرة على إدارة نفسه ، ودخل في انقسام عامودي حادّ واصطفافات لا تزال حتى اللحظة تعكس طبيعة الصراع الدائر في المنطقة .
حينها اعتقد الأميركي انه بمقدوره تغيير الوقائع طالما أنّه استطاع إخراج الجيش العربي السوري من لبنان ، واعتقد ان اللحظة قد حانت لإنهاء حزب الله وإدخال لبنان في اتفاقية ” سلام ” مع كيان العدو .
لكن حسابات الأميركي جاءت منقوصة واصطدم بقرار فريق المقاومة ، وكان لا بدّ من صدمة ثانية بعد صدمة اعدام صدّام حسين تخلط الأوراق وتزيد من الشرخ ، فكان اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي كان بمثابة الزلزال الثاني بعد زلزال احتلال العراق واعدام صدام .
استطاع حزب الله حينها إدارة الإنهيار عبر الدخول في التحالف الرباعي مع تيار المستقبل وحركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي ، ولكنه تحالُف تم نحره من المستقبل والإشتراكي مع بدء عدوان تموز 2006 ، لنكون بعد احداث السابع من أيار امام محاولة ظاهرها قطَري وباطنها أميركي – سعودي لرأب ما يمكن رأبه ومنع حدوث تحولات لمصلحة فريق المقاومة اذا ما توسع الإشتباك حينها ، فتمّ من خلال اتفاق الدوحة وقف الإشتباك العسكري والإتفاق على إدارة الأزمة في بعدها السياسي بانتظار تحولات قادمة تمكّن الأميركي من تحقيق أهدافه .
وجاءت الحرب على سورية والمنطقة من ضمن تقدير موقف أميركي – إسرائيلي – خليجي كان يعتقد ان انفراط عقد الدولة في سورية سيُسقط سورية والمقاومتين اللبنانية الفلسطينية ومعهم ايران بالضربة القاضية .
هذا الأمر لم يحصل ودخلت المنطقة في اشتباك مستمر حتى اللحظة وحسمت الأطراف السياسية في لبنان مواقفها وتموضع كل فريق ضمن محوره .
وحتى لا نسترسل كثيراً في السرد فإنّ المفصل فيما يحصل في لبنان الآن بدأ مع زيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو في آذار 2019 والطلب من المسؤولين اللبنانيين خمسة مطالب ترتبط
1- الخصخصة عبر تنفيذ طلبات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي .
2- إيجاد حل لمشلكة استخراج الغاز والوصول الى اتفاق مع الكيان الصهيوني حول الحقلين 8 و9 .
3- دمج النازحين السوريين بانتظار الانتخابات الرئاسية السورية واستخدامهم كورقة ضغط على سورية ولبنان معاً .
4- توطين الفلسطينيين في لبنان بشكل نهائي .
5- تسليم سلاح حزب الله وتقليم اظافره سياسياً بعد إحداث متغيرات ديموغرافية بنتيجة توطين الفلسطينيين .
وهو ما تم رفضه كليّاً من رئيس الجمهورية وفريقه السياسي وحركة أمل وحزب الله واللقاء التشاوري وتيار المردة .
وكان لا بدّ من محاولة أخيرة لإجبار لبنان على الركوع وتنفيذ املاءات اميركا فكنا أمام سلسلة الحرائق وفيما بعد أمام ضريبة الواتس آب التي كانت بمثابة فتيل الإنفجار لحراك شعبي مطالبه محقّة وحاصله تحقيق لما تصبو اليه أميركا وهو ما ترافق مع سلسلة من الإنهيارات المستمرة التي كشفت عورة النظام وهشاشته سواء بسعر صرف الليرة اللبنانية او حجز أموال المودعين وصولاً الى انفجار المرفأ وما بين هذه التطورات استقالة الرئيس سعد الحريري وتكليف الرئيس حسان دياب واستقالته ومن ثم العودة الى تكليف الحريري من جديد بعد اعتذار مصطفى اديب ، لنكون امام فصول مريعة من الإنهيارات الناعمة بأدوات حربٍ ناعمة منها الإعلامي ومنها الاقتصادي وادواتها معلومة في تموضعها وفي اصطفافها وفي أهدافها .
وحتى نتعاطى بصدقية وموضوعية مع الأزمة الحالية فلا شيء يوحي بحلول قريبة وإن كانت المبادرة الفرنسية المستمرة بخجل محاولة لترقيع الإنهيار الذي لم تعد تجدي معه التسويات ولا الإملاءات ولا الضغوط ، فالبيئة المُستهدفة اصلاً وهي بيئة المقاومة تبدو اكثر صلابة رغم الأوضاع المعيشية الصعبة التي تعيشها على غرار غيرها من شرائح الشعب اللبناني وهو ما يعقد الحل أكثر ولا يُتيح للبنان الدخول في تسوية على شكل التسويات السابقة .
أمام هذا الوضع المزري والمريع تبدو وجودية الكيان حاضرة كمخاطر وتحديات ولا مجال للعودة الى الوراء .
فلا الأميركي والإسرائيلي بوارد التراجع ولا المقاومة وفريقها يعيشون عقدة الضعف والحل الوحيد هو اتفاق اللبنانيين على عقد سياسي وإجتماعي جديد لا يمكن ان يمّر الا من خلال مؤتمر تأسيسي يتم من خلاله تعريف الكيان ويعكس طبيعة موازين القوى على أسس واقعية تأخذ بعين الإعتبار طبيعة التحولات الحالية ونتائجها اللاحقة على مستوى المنطقة وهو الأمر المتعذر حالياً بانتظار حرب كبرى او تسوية كبرى ليست منظورة والى حين الوصول الى حرب او تسوية سيبقى لبنان واللبنانيين اسرى السجالات والتجاذبات رغم ان ولادة فجائية للحكومة قد تحصل ولكنها لن تكون اكثر من مخدر ليس فيها شفاء من الداء .