كتب د . احمد الدرزي | ” طوفان الأقصى” والميادين نحو المقاومة العالمية
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
كان القرار الذي اتخذه الكابينت “الإسرائيلي”، بإغلاق مكاتب “الميادين”، في فلسطين المحتلة، بمثابة الاعتراف الكامل، بخطورة عملها المستمرّ، على مقاومة الكيان، وما تشكّل من مخاطر عليه، مما سلَّط الضوء على حجم الدور الذي تؤديه، ضمن الصراع العالمي، من بوابة مقاومة الاحتلال، الأمر يدفع لطرح سؤال أساسي، ألا ينبغي العمل على مستوى أوسع مما هي عليه الآن؟
وُلدت فكرة إنشاء قناة الميادين، في إثر الحرب في سوريا عام 2011، وبروز دور الإعلام العربي المحرّض فيها، والذي استطاع إلى حد كبير، في استكمال ما بدأه في العراق، قبل احتلاله الأميركي بسنوات، فكان له الأثر البالغ، بإحداث انقسام سياسي اجتماعي عميق، وواسع، غير مؤسس على تراكم تجربة سياسية إيجابية، مما دفع سريعاً وخلال الأسابيع الأولى، نحو ظهور العنف المسلّح المبرمج، المبني على سرديات سياسية وطائفية بحتة.
كان من الواضح لذوي البصيرة السياسية، بأنّ ما يجري في سوريا بالذات، لا ينطلق حقيقةً، من احتياج السوريين للتغيير السياسي العميق، على الرغم من حاجتهم لذلك، وانطلاق الكثيرين منهم، للتعبير عن رفضهم للنمط السياسي والاقتصادي السائد، بل هو في سياق مشروع غربيّ، تقوده الولايات المتحدة، بدوافع متعدّدة، ذات أبعاد جيوسياسية، واقتصادية، وطاقوية، لها الدور المهم جداً، في الصراع على بنية النظام الدولي، بما في ذلك توفير الأمن والاستقرار للكيان الصهيوني، من خلال تحطيم دول جواره، وسهولة إدماجه ضمن النظام الإقليمي، عبر البوابة العربية.
كان العمل من البداية، ينطلق من الاعتقاد والإيمان، بأن قضية فلسطين، هي القضية المركزية الوحيدة، بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية، التي لا يمكن أن يختلفوا عليها، وأن الجرح الفلسطيني النازف منذ الثورة الفلسطينية 1936، يشكّل القاسم المشترك شبه الوحيد بين الشعوب المضطربة داخلياً، وفي محيطها الإقليمي، كما أن حضور هذه القضية إعلامياً، كأولوية وحيدة، واعتبار بقية الاهتمامات، بمثابة جزء مكمّل للقضية الفلسطينية، واجتماع الناس عليها، هو ما يخفض من الاحتقان الطائفي والقومي والإثني، بما يساهم بشكل كبير، بإفشال المشاريع الغربية المفتّتة للدول والشعوب.
اعتمدت سياسة “الميادين” على توسيع الإطار العام الجامع، إن كان من حيث الخطاب، أم من حيث الأهداف، أم من حيث انتماء العاملين إليها، فكان المعيار الوحيد للعمل فيها، هو تبنّي خط المقاومة، فكراً وعملاً، بغاية استقطاب القوى المقاومة، وبإحياء التيارات الفكرية المقاومة، فجمعت في هذا الإطار العاملين متنوّعي المشارب، المتدينين والعلمانيين، والإسلاميين والقوميين واليساريين، فظهر نسيجها المتنوّع، من اليساريين الذين لم يتربللوا، والسوريين القوميين الاجتماعيين، والقوميين الناصريين والبعثيين، إضافة إلى شخصيات عالمية.
نتج عن هذا التنوّع في عناصر نسيج “الميادين”، تنوّع في الاهتمامات الإعلامية المقاومة، فخرجت البرامج والأخبار، التي تهتم بكل ما يتعلّق بمقاومة الهيمنة الأميركية، على مقدّرات الشعوب واستقلالها، فبرز الاهتمام بتسليط الضوء على الشخصيات المؤسِسة للفكر والعمل المقاوم، المتنوّعة المنطلقات الفكرية، مثل شخصيات، عز الدين القسام، وأنطون سعادة، وجمال عبد الناصر، وتشي غيفارا، إضافة إلى المقاومين العالميين الحاليين، أمثال جوليان أسانج، وإدوارد سندودن، وهوغو شافيز.
على الرغم من المحاولات الكبيرة، لحرف خط “الميادين” عن خطها العام، ومحاولة تشويه صورتها العامة، من خلال الحرب في سوريا، التي استُخدمت فيها، كل أنواع الإعلام المُمزّق سياسياً وطائفياً، فإنها استطاعت أن تحافظ على نهجها العامّ المقاوم، وبقيت فلسطين بوصلتها الوحيدة.
أفرزت ملحمة “طوفان الأقصى” واقعاً جديداً، ليس على الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي فحسب، بل امتدّ ليشمل بقية العالم، بمشهد غاب عن الوسط العالمي، لأكثر من عشرين عاماً، قبل الاحتلال الأميركي للعراق، فخرجت المظاهرات الكبرى المنظمة، بقوى اجتماعية رافضة للهيمنة الأميركية الغربية، مترافقاً ذلك بانقسام متوسّع داخل المنظومات السياسية الغربية، مع انكشاف حجم “الإجرام الإسرائيلي”، المحمي سياسياً وإعلامياً، أميركياً وأوروبياً.
هذا الواقع العالمي الجديد من جهة، والكشف عن حجم الدور الهائل، الذي تقوم به “الميادين”، من جهة ثانية، بعد قرار حظر عملها داخل فلسطين المحتلة، يضع “الميادين”، أمام مسؤوليات جديدة، باعتبار أن ملحمة “طوفان الأقصى”، هي قفزة كبيرة، على طريق تغيير وإسقاط النظام العالمي المستمر حتى الآن، على الرغم من كل المتغيّرات الإيجابية العالمية، في إثر الحرب في سوريا وأوكرانيا، وأن طريق الوصول إلى القدس، مرتبط بتغيير هذا النظام، الذي يعتبر فيه هذا الكيان، من صلبه، وعنوان نهايته.
تنطلق هذه المسؤولية الجديدة “للميادين”، نتيجةً لمكانتها، التي حصلت عليها، على مستوى المقاومين العالميين، وهي تستطيع أن تكون منبراً لكل القوى السياسية، وقوى المجتمع المدني، التي هبَّت للتعبير عن رفضها للنظام العالمي الحالي، ذي الطابع الإجرامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يحصل، إلا من خلال تحويلها للمنبر الأهم للقوى المقاوِمة العالمية، والبثّ باللغات العالمية، وخاصةً الإنكليزية والإسبانية، وتكرار تجربة نجاحها العربي، باستقطاب العاملين المقاومين العالميين، كما فعلت بفتح منبرها العربيّ لجورج غالاوي البريطاني.
لا تقلّ أهمية الإعلام عن العمل العسكري، وقد يتفوّق في أدواره في بعض الساحات، أو يتساوق معه في المعارك نفسها، وتأتي أهمية توسيع عمل “الميادين” ضمن هذا السياق، الذي يتطلّب العمل، على اجتماع كل القوى العالمية، على هدف إسقاط النظام العالمي المهيمن، الذي تحتاجه جميع الشعوب، والقوى السياسية والاجتماعية، بما في ذلك شعوب النظام الغربي، التي بدأت تستيقظ على مخاطر استمرار نظامها الحالي عليها أيضاً، بالرغم من الكلف المالية الكبيرة، لما تتطلّبه المسؤولية الجديدة، الأوسع والأكبر.