كتب د . احمد الدرزي | سوريا والصين الحذر مستمر
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد للصين، في مرحلة من أصعب مراحل الحرب السورية، الممتدة منذ أكثر من اثني عشر عاماً، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي شديد الوطأة، والضغوط على الشريحة الأكبر من السوريين، وتتجاوز نسبتها 94 %. وعلى الرغم من التوقيع على اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، فإن الحذر كان هو المسيطر، بعد تلقي السوريين أنباء الشراكة الاستراتيجية.
على الرغم من العلاقة القديمة بين سوريا والصين، ودعم سوريا انضمام الصين إلى الأمم المتحدة، بديلةً من الصين الوطنية عام 1949، فإنها لم تأخذ مساراً تصاعدياً سوى في المرحلة الممتدة بين عامي 1966 و1970، لتضمحل بعدها ضمن الحدود الدنيا، وخصوصاً بعد الفشل في تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، وذهاب الصين إلى توسيع علاقاتها المتنوعة بـ”إسرائيل”، والاعتماد على مرفأ حيفا مركزاً بحرياً في شرقيّ المتوسط، بديلاً من مرفأ طرطوس، الذي كانت الصين تطمح، من خلاله، إلى أن يكون هو هذا المركز، بما يمتلكه من إطار جغرافي، يمنحه إمكان الوصول البري إلى شانغهاي.
أدركت بكين، مع بدء الحرب في سوريا، أن أمنها القومي هو المستهدف، بالإضافة إلى موسكو وطهران، وهي العواصم الثلاث التي وقفت مع سوريا بقوة، وفي الوقت نفسه أدركت أن الحرب في سوريا ستذهب نحو حدوث انقسام كبير، سياسياً ومجتمعياً، وأن حماية سوريا، التي تشكل عقدة جيوسياسية، شديدة الأهمية في مشروعها العالمي، وأنها تحتاج إلى حمايتها من خارجها، بعدم منح الشرعية الدولية للعدوان، عبر استخدامها الڤيتو في مجلس الأمن ثمانيَ مرات مع موسكو.
والأمر لم يتوقف على الحماية الخارجية فقط، وإنما يحتاج إلى حمايتها من الداخل، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا بنزع الذرائع الغربية، عبر القيام بالإصلاح السياسي، فاستقبلت وفداً من المعارضة السورية المدنية، مع تقديم النصيحة ببدء هذا الإصلاح، عبر ما سمّته الهبوط الناعم، وأن المسؤولية الأولى تقع على عاتق دمشق بالبدء به من الأعلى إلى الأسفل، لكنّ تداعيات هذه النصيحة لم تُسِرّ القيادة الصينية، الأمر الذي دفعها إلى الابتعاد عن الملف السوري، وتعزيز سياسة الحذر المستمرة، والاقتصار على الدعم السياسي الخارجي، والمتابعة الأمنية لملف الإيغور، الذين يتموضعون في ريف اللاذقية الشمالي وإدلب وريف حلب.
جاءت الخطوة الصينية الأخيرة، بدعوة الرئيس بشار الأسد إلى حضور دورة الألعاب الآسيوية، في ظل احتدام الصراع الدولي على بنية النظام المراد تغييره، وأهمية سوريا الجيوسياسية في منطقة غربي آسيا، وخصوصاً بعد أن تم التوقيع على المشروع “الإسرائيلي” الأميركي، الذي يعمل على الربط، براً وبحراً، بين الهند والإمارات والسعودية والأردن و”إسرائيل” وقبرص ودول الاتحاد الأوروبي، مع ما يشكله من تهديد لمشروع مبادرة الحزام والطريق، واستمرار الضغوط الأميركية على “إسرائيل” من أجل منع الصين من استثمار ميناء حيفا.
حملت هذه الزيارة مؤشرات إيجابية، بسبب ما يمكن أن تقدّمه الصين إلى سوريا، بدءاً بتخصيص طائرة صينية لنقل الوفد السوري، وبدء تحطيم العزلة السياسية المفروضة على سوريا، من خلال عنوان حضور افتتاح الألعاب الآسيوية، بحضور اثني عشر من قادة الدول الآسيوية، والتوقيع على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، بعد مرور عام على توقيع الشراكة في مبادرة الحزام والطريق، والتي لم تشهد بعدُ تغييرَ مساراته نحو سوريا، وبقاء مسارات شمالي غربي إيران وجنوبي شرقي تركيا نحو دول الاتحاد الأوروبي، ومسار العراق الأردن نحو شمالي أفريقيا.
من الواضح أن السياسات الصينية ما زالت على حذرها، وخصوصاً بعد إعلان توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية، وهو الاتفاق الذي يعزّز التعهد الصيني بشأن حماية أمن سوريا، وضرورة خروج القوات غير الشرعية، والتي لم تُسمَّ في البيان، وإيقاف سرقة الموارد والثروات السورية، في إشارة إلى دور الولايات المتحدة.
وكان الحذر واضحاً أكثر ما يمكن في السياسات الصينية الاقتصادية تجاه سوريا، وهو الملف الأكثر حضوراً في نتائج الحرب، وما يمكن أن يشكّل من تهديدات كبرى لسوريا، وعودة الاضطرابات، على نحو يتيح للولايات المتحدة التدخل بقوة في بنية النسيج السوري العام، فحمل البيان جملة “وسيواصل الجانب الصيني تقديم ما في وسعه من المساعدات إلى سوريا”، وهو ما يؤكد استمرار سياسات الحذر الصينية، وأنها ستعمل بالتدريج وبصورة اختبارية لكيفية تعامل الإدارة السورية داخلياً، مع الفعاليات الاقتصادية الصينية، وأن القدرات الصينية الهائلة جاهزة للعمل في سوريا، لكنها تحتاج إلى رؤية داخلية جديدة، تعمل على توفير حالة الأمن والاستقرار، من بوابة إعادة الإعمار السياسي، وتغيير بيئة العمل الاقتصادي، وبتشريعات اقتصادية جديدة، تمنح المستثمرين الطمأنينة في العمل الاقتصادي.
والأمر في هذا الحذر لا يتوقف على الداخل السوري، بل يمتد إلى محيط سوريا الإقليمي. فاتفاق الشراكة مع العراق لم يتم تفعيله منذ عام 2019، بعد أن أثارت الولايات المتحدة الحراك العراقي، في وجه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، نتيجة توقيعه اتفاق الشراكة.
كما أن السعودية والإمارات، الضروريتين لتمويل إعادة الإعمار، لم تحسما موقفيهما تجاه سوريا، لعدم الاتفاق معها، بفعل الدور الأميركي السلبي، بالإضافة إلى تركيا، التي تمثل جسر العبور البري للصين نحو أوروبا. وهي الدول التي تشكل المحيط الإقليمي الآمن للبيئة السورية الداخلية، وكل هذه الدول غير جاهزة بعدُ لتحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، ولم تحسم خياراتها بين الشرق والغرب.
الخطوة الصينية تجاه سوريا هي قفزة كبيرة في تاريخ العلاقات بين البلدين، إذا تم استثمارها عبر السياسات الداخلية والإقليمية، على نحو يعزز الدور الصيني في منطقة غربي آسيا، بديلاً من الدور الأميركي المدمِّر، والذي ما زال فاعلاً على رغم التراجع التدريجي له في المنطقة، وبما يعزز استعادة سوريا استقلالها عبر وحدة أراضيها، واستعادة دورها الإقليمي، ببنية سياسية متجددة، مندمجة بالبعد الآسيوي الناهض.