أ.د . مكرم خوري مخّول |أكاديمي متخصص في العلاقات الدولية والإعلام السياسي
السؤال الأخلاقي الأساسي هنا هو: هل أنت مع أو ضد الحرب الكونية الموثقة بالاعترافات والجرائم على الجمهورية العربية السورية؟ وبالتالي: هل أنت مع أو ضد الاحتلالات الخمسة في سورية التي تنهب الثروات السورية وتفرض العقوبات الاقتصادية المسؤولة عن الوضع الاقتصادي؟
لكن قبل أن نتحدث عن الحالة السورية في صيف 2023 نشير الى أنه غالبًا ما ينعكس سلوك بعض الشرائح الشعبية في الأحداث والظروف العصيبة بخطابات غير عقلانية. عموما إن استمرت الخطابات لأكثر من عدة أيام وحملت الرسالة ذاتها رغم تنوع أسلوب الخطاب فإنها غالبا ما تكون جزاء من حملة إعلامية تحريضية مُمَنهجة. إما آنها موجهة سياسيا، أو مدفوعة الأجر، أو الإثنين معا. وأحيانا جزء من الأقلام يكون مأجورا بطلب ورضا وجزء من الأقلام لا تعرف أنه يتم تضليلها واستغلالها. وسرعان ما نرى أن مجموعة من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي – الإعلامي الجديد تنخرط بعملية بلورة لـ “خطاب الذعر” Panic Discourse لغرض نشر الفوضى.
شاهدنا عشرات الپوستات والمقالات التي نشرت عن الوضع بالجمهورية العربية السورية وذلك للتحقيق فيما إذا كانوا قد كتبوا ما كتبوه من باب الحرص على الدولة والشعب والمجتمع داخل سورية وفيما إذا كان النقد الموجه يتبنى أسلوب النقد البناء ويعمل في غاية لإصلاح وتقديم المقترحات المهنية والعملية والحفاظ على السلم الأهلي ولتهدئة المجتمع.
هنا نشير الى أننا لا نقصد هنا بالمواد التي يتم نشرها من قبل “المعرتزقة” (المعارضة المرتزقة) وإنما بعض الأقلام التي ما زالت تعيش في سورية.
مشاهدة أولية للمواد تشير الى أن نسبة حرية التعبير عن الرأي في سورية ارتفعت لدرجة أن أولئك الذين يتم التعرض إليهم لا يردون لا بل غير آبيهن غالبا بتقديم أي رد رغم أن الكثير من المواد التي نشرت في الأسبوعين الأخيرين قد توقع كاتبها تحت طائلة القانون بكل ما يتعلق بالذم والتشهير والقذع. بكلمات أخرى، أنه بإمكان من تم شتمهم والتهجم عليهم بصورة شخصية اللجوء إلى القضاء كما هو الحال في أية دولة من الدول “الأكثر تطورا” في الغرب وذلك لضمان حقهم الشخصي ولرد الاعتبار لمكانتهم الاجتماعية والسياسية في الفضاء العام. Public Sphere
الظاهرة الثانية التي لفتت انتباهنا هي قيام بعض الأقلام بالتحريض المباشر ضد الدولة ومؤسساتها المتنوعة وضد شخصيات بعينها من وزراء ومسؤولين وبشكل شخصي.
بدول متعددة يتم تعريف “التحريض” وهو مصطلح قانوني يشير إلى فعل تحريض شخص آخر على فعل شيء ما. ونحن في هذا الإطار لا نتكلم عن التحريض على “ارتكاب الفجور والدعارة” وإنما الحشد والتشجيع المتعمد والتجييش أو المساعدة لشخص\أشخاص آخرين على ارتكاب جرائم ضد الدولة أو السلم الأهلي والعبث بالنظام والأمن العام.
إن بلورة “خطاب الذعر” في وسط الجمهور والمتلقين إنما يشير الى الترويج لفكرة سلبية والإصرار على ارتكاب جريمة كان مصدرها قد نشأ في ذهن شخص معين وتم (أو يُخطط) لتنفيذها لتصبح جريمة رغم أن البعض لم يخطط أبدا عن سوء نية على الاقدام على ذلك وإنما يكون قد غٌرر به بواسطة زرع “خطاب الذعر”.
بعد فترة قد يصبح هذا التحريض الأولي إلى سلوك “منظم” وتعاون من قبل أبرياء تم استغلال أوضاعهم المعيشية (بأجر أو بغير أجر) لارتكاب جرائم لم يرغبوا بالإقدام عليها أصلا.
ولكن ما قد يجعل “خطاب الذعر” عملا مٌمَنهجا ويقرر إذا ما كان سيكون قصير أو متوسط أو بعيد الأمد هو إذا ما كان من يمول هذه المجموعات على الأرض بشكل مباشر أو غير مباشر. وهنا نشير إلى أنه ورغم الحصار الاقتصادي على سورية فإن طرق تهريب الأموال عبر المناطق الشمالية التي تخضع للاحتلال التركي أو للاحتلال الإرهابي التي تدعمه تركيا متوفر بشكل مستمر.
إن مقالات أو پوستات (الفيسبوك بشكل خاص) المشاركة في التحريض على الدولة السورية والنظام العام، وإن أتت أحيانا من قبل عدد قليل من شخصيات تم تعريفها عموما سابقا بـ “الوطنية” (وهذا تعريف انتهازي مطاطي غالبا ما يخضع لمصالح ترويجية)، فهي تصب بمصلحة المتصيدين بالماء العكر. أولئك الذين خططوا لتنفيذ تفتيت الدولة السورية منذ آذار ٢٠١١ مستعملين شتى سبل التخريب من التحريض الإعلامي وإلى الإرهاب والتجويع الاقتصادي والحصار السياسي وفرض العقوبات القاتلة.
لفتتنا ظاهرة في حملة التحريض قد تكون صفة أوسع بين بعض شرائح الأمة العربية (وليس فقط في سورية وإنما أيضا في اليمن والعراق ولبنان وليبيا ومصر وتونس) وهي تبنى أسلوب الخطاب الطائش غير المسؤول والذي يتسم بعدم الدقة والاتهامات الجارفة العامة. جزء من هذا الخطاب العاطفي اللاعقلاني عبر ويعبر عن مشاعر الخوف والضيق ومنه ما اتجه لتوزيع اللوم على تصرفات وقرارات الحكومة السورية إذ اعتبروها (بالمطلق) مسؤولة عن المأساة بالكامل.
يجدر القول هنا وبصراحة أنه لا يمكن إنكار وجود الفساد أو غض الطرف عنه في سورية. الا أن ١) منظومة الفساد موجودة في غالبية الدول بمن فيها الدول الغربية المتقدمة وبمستويات متعددة إذ تتراوح درجة علاج هذا الفساد ووتيرته من بطيء إلى متوسط السرعة. ٢) الفساد ليس نتيجة العقد الأخير في سورية وإنما نتيجة عقود من استغلال بعض الشرائح لمناصبها إضافة إلى سوء الإدارة. ٣) الوضع الاقتصادي القاسي الذي يجتاح سورية ليس نتيجة سياسات الحكومة الحالية ولا التي سبقتها وإنما هو نتيجة فرض حصار سياسي تعسفي ظالم ضد الدولة السورية حكومة وشعبا إضافة الى تطويق سورية بعقوبات اقتصادية إجرامية ترتقي لجرائم ضد الإنسانية ومحاولات إبادة شعب ولذلك فلقد تقدمنا بدعوى في القضاء البريطاني (على سبيل المثال) وذلك لرفض الحكومة البريطانية المشاركة في العقوبات الغير قانونية ضد سورية.
اعتقادنا هو أنه من الصعب أن تجد شخصا واحدا \ مسؤولا كبيرا في الدولة السورية سيرفض قبول النصائح المهنية والمبادرات التي يمكنها ان تساعد المواطن السوري على تحسين وضعه في ظروف الحرب التي تحرق محاصيل القمح وتنهب أكثر ما قيمته خمسين مليون دولار من حقول النفط وكل ذلك بعد أن نهبت العديد من صناعاته في الشمال السوري وهجرت الكثير من موارده البشرية.
إن مضامين “خطاب الذعر” من قبل المحرضين المتربصين و\أو المحرضين “الأبرياء” أو الساذجين ضد الأمن والأمان في سورية تُستخدم من قبل بعض الناس حتى عندما يكون لديهم العديد من الأسباب لرفض مضامينه غير العقلانية والتي هي عبارة عن استغلال للوضع القائم من قبل جهات خارجية تعبث بمسير الدولة السورية فقط لأنها تظن أن سورية هي كازينو قمار إقليمي أو “صيدة ثمينة”.
ما يحصل في المجتمعات البشرية بما في ذلك تفاعلها السلبي أو الإيجابي مع الخطاب العام حول الأوضاع الاقتصادية يشبه إلى حد كبير قوانين الحرائق في الطبيعة. فإن الآثار البيئية والتفاعلات الحاصلة بين النار والمكونات الطبيعية الغير حية والريح والعواصف والانهيارات الأرضية هي التي تقرر مجرى ونتائج هذا الحريق أو ذاك.
عموما فور رمي عيدان الكبريت الأولى سرعان ما تبدأ الحقول بالاشتعال وهكذا تعمل عيدان كبريت الإعلامي على إشعال التحريض. إن وقوع حريق يعد حالة طوارئ وفي حالة الطوارئ يجب تبني أساليب تخدم السلم الأهلي. إن استمرار الاشتعال وحجم الضرر يتعلق بتوفر مادة إطفاء النيران وسرعة إخماد الحرائق ومهارات طواقم الإطفاء وتجربتهم وتكييف البيئة الاجتماعية للوضع المتضرر والإصرار على إخماد الحريق فورا.
لحصار سورية السياسي والعقوبات الاقتصادية عليها أهدافاً عديدة منها ما هو قصير ومتوسط وبعيد الأمد. وإلا فلماذا يتم فرضه بشكل إرهابي (غير قانوني)؟ إن ما يحصل في هذه الأسابيع في سورية إنما هو افتعال إعلامي تحريضي مبرمج وحلقة مدمجة من برنامج محاولة تدمير الدولة السورية. إذ يمكن العثور على السردية الجديدة القديمة لأعداء سورية في پوستات السوشيال ميديا والتي تحاول رفع منسوب الشعور المتزايد بالذعر.
الحقيقة هي أن صعوبة الوضع الاقتصادي ليست بأزمة جديدة وإنما مستمرة. وبما أن الوضع الاقتصادي في سورية هو نتيجة مباشرة لحصار سورية وذلك لأسباب سياسية تعود الى رغبة المحور الصهيو – ناتوي بالتحكم في سورية وكسر جبهة المقاومة، فعلينا ومن منطلق أخلاقي ووطني وقومي الوقوف بثبات مع الدولة السورية والإعلان أنه بسبب العقوبات الإجرامية على سورية والتي غالبا ما تتسبب في القتل البطيء لبعض المواطنين أننا ضد العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي على سورية وبالتالي مع التصدي المتنوع لزرع خطاب الذعر والتحريض ضد سورية تحت أي ذريعة. فإذا كنا ضد العقوبات الإجرامية فمن المستحيل أن نكون مع حملات إعلام الذعر التي تريد النيل من سورية دولة وحضارة.