كتب د . نواف ابراهيم | هذه الحرب ليست حرب روسيا وحدها والعين على أفريقيا
الدكتور نواف ابراهيم | كاتب وباحث مقيم في روسيا
تعيش البشرية هذه الأيام متغيّرات متسارعة تشكّل منعكساً حقيقياً كنتيجة طبيعية لما يجري من تخبّط غير معتاد نحو الانتقال إلى نظام عالمي جديد. وهذا العالم المنتظر من المفترض أن يكون أكثر سلاماً واستقراراً وعدلاً ممّا كان عليه خلال العقود الماضية، تحت إشراف شرطي العالم الفارّ من العدالة الدولية، الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب الجماعي.
هذا الثنائي الذي فعل كل ما في وسعه من أجل تحقيق معادلة “المليار الذهبي”، مستخدماً كل الوسائل، بما فيها غير المشروعة، قانونياً وإنسانياً وأخلاقياً، بدءاً بالحروب المفتعلة والثورات الملوّنة وتدمير الدول عبر إحداث القلاقل وإثارة الفوضى “الخلّاقة”، ودعم الحركات الانفصالية والإرهاب وفرض الحصار الاقتصادي على دول لا تريد الارتهان لسياسات الغرب، وصولاً إلى نشر الأمراض والأوبئة ومحاولات استخدام الذكاء الاصطناعي لأهداف عسكرية وغير إنسانية، والعد لا ينتهي، حتى وصل العالم إلى مرحلة غاية في الخطورة والدقة. وفي معمعة الصراعات التي روّجها أصلاً صموئيل هنتغتون، منظّر “صراع الحضارات”، في حديثه عن العولمة وعالم بلا حدود، بخديعة ومكر ندفع ثمنهما باهظاً حالياً.
فعلاً أصبح كل شيء في هذا العالم بلا حدود في روح أي اعتبار مادي أو معنوي للبشرية. كل شيء خرج عن الحدود المعقولة، كأن العالم جنّ جنونه، حتى بدأ البعض يتنبّأ بنهاية العالم وقرب يوم القيامة. وما دعم هذه الأفكار المصطنعة، هو الزلازل السياسية والعسكرية المتطايرة والمفتعلة في كل أنحاء المعمورة، بلا حسيب أو رقيب، والتي تبعتها مؤخّراً زلازل طبيعية يختلف بشأن حقيقة منشئها كثير من الخبراء والعلماء، حتى بات الإنسان العادي في كل مكان في حالة رهاب ووداع مع هذه الحياة، وهمّه الوحيد أن يعرف شيئاً عن مصيره، وكيف له أن يبقى في قيد الحياة.
فشلت العقول وضعفت دول و”ضاعت الطاسة” فيها كما يقال بالعامية، فهل يمكن أن يحتمل العالم كل هذه الضغوط الهائلة؟ بالطبع لا، من هنا نرى أنّ العالم ينتفض في كل مكان، مطالباً بفهم ما يجري، وإلى أين هي ذاهبة هذه البشرية في الأيام المقبلة.
تمحوُرُ التوازنات في العالم لم يعد خافياً، إذ نرى فعلياً بروز تموضعات قارية جامعة. ويبدو أنّ القارة الأفريقية تأتي بين المراتب الأولى في الحسابات كمرشّحة لتكون ساحة صراع عالمي جديدة، “كانت مؤجّلة في وقت قريب”، أو نقطة انطلاق تحقيق الاستقرار الاستراتيجي، وهذا سيحدّده سلوك المحاور والسياسات التي سوف يتّبعها كل طرف.
أفريقيا تُعَدّ بين الأغنى في الثروات الطبيعية والباطنية والقوى العاملة، وعاش على حساب نهبها الغرب الجماعي مئات الأعوام. وكانت أحد الروافد الأساسية للاقتصاد الغربي، بحيث ملأ الغرب مخازنه منها على حساب نشر الدمار والحروب والأمية والجهل وتدمير الإنسان، وجعله مجرَّد أداة ورقم، ولا يعدو عن كونه آلة بشرية لا مفرّ لها من أن تنفّذ أوامر السيد، وليَكُن الموت بالجملة.
أفريقيا ولّادة، ونسبة الشباب فيها الأعلى في العالم، والإنسان الذي يُعَدّ ثروة الثروات تحوّل إلى جسر نهب واستغلال، تدوسه عربات المصالح الضيّقة لدول بعينها، لكنّ كل الإشارات تقول إنّ أفريقيا، في غناها، جيوستراتيجياً وجغرافياً وديمغرافياً وسياسياً، ستتقدّم إلى الصفوف الأولى كونها دخلت في مرحلة التحرّر من سطوة الأجنبي.
من هنا، نفهم سعي روسيا والصين للاستثمار عبر التقارب مع هذه القارة، بالتوازي مع تطوّرها الملحوظ، جماعياً وفردياً، في كل المجالات، عدا عن أنها تسير نحو الاستقرار خلافاً عن الزمن السابق، على رغم عدم خروجها الكامل من مرحلة خطر عدم الاستقرار الذي قد تعمل دول الغرب الجماعي، برعاية أميركية معتادة، على تصعيده من أجل قطع الطريق على فك الارتهان لها. وهذا ليس من مصلحة أصحاب مبادرة عالم متعدّد الأقطاب.
من هنا، نشهد اهتماماً بالغاً من دولتين عُظميين هما روسيا والصين، اللتان أخذتا مؤخّراً على عاتقيهما، علناً على لسانَي رئيسيهما فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، مبادرة توحيد الجهود لأخذ المتغيّرات العالمية الحالية تحت السيطرة، وتوجيهها نحو ما فيه خدمة مصالح البشرية وتحقيق الأمن والاستقرار العالميين.
تاريخياً، حفظت روسيا الود والاحترام لدول القارة الأفريقية، ولم تكن يوماً إلّا سنداً لمظلومية شعوبها القاسية، وامتلكت معها علاقات جيدة، وتعاملت معها نداً لند، بغضّ النظر عن الظروف التي تعيشها هذه الدول على مر الأعوام الماضية. وهذا ما ترك أثراً بالغاً لدى قادة دولها وشعوبها، ومتّن علاقات التواصل والتعاون، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وشكّل أساساً جيداً لبناء علاقات أكثر شمولية ومنفعة لكِلا الطرفين، في ظل المتغيّرات العالمية الحالية، التي لم تترك خيارات كثيرة لجهة بناء التحالفات الجديدة مع روسيا الجديدة.
الدول الأفريقية، التي أدارت ظهرها لروسيا، غير المستقرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعطت وجهها للغرب، نراها تعود اليوم إلى جادة الصواب، عن فهم ووعي وإدراك، وتعي أن مصلحتها تكمن مع حليف قوي وشريك صادق، ويتعامل معها بنديّة واحترام السيادة والاستقلالية والمصالح، وهذا ما لم ولن تجده القارة الأفريقية مع الغرب المحتل العتيق واللصّ الأنيق.
على الضفة الأخرى، آسيا، التي من المفترض أن تتحوّل إلى مركز السياسة والاقتصاد العالميَّين، في وقت نرى الشرق الأوسط بدأ يقول كلمته، بل يفعل كل ما يمكن من أجل فك الارتهان للغرب. وما سلوك دول المنطقة، بصورة عامة، وفي الخليج، على وجه الخصوص، وتحديداً السعودية، إلا انتفاضة من المفترض أنها في حال تمت بنجاح ستغيّر وجه المنطقة وتؤثّر في ضبط التوازنات العالمية الجديدة.
يتمّ كل ذلك بدفع ودعم وتشارك، على نحو واضح للعيان، من روسيا والصين، تنضمّ إليه الهند مستقبلاً ودول أخرى ومنظمات أخرى صاعدة، كـ “منظمة شنغهاي للتعاون”، و”منظمة الأمن والتعاون”، و”مجموعة بركس”. ومع ذلك، سيستمرون في محاولات احتواء الصين والضغط عليها في جنوبي شرقي آسيا وبحر الصين الجنوبي وتايوان والمحيط الهادئ، وسيستمرون في زعزعة المنطقة الأوراسية والمحيط الجيوسياسي الروسي.
أمام كل هذا، المقلق أن العالم على حافة الهاوية، والجنون في تصاعد، والعقل في اضمحلال، وصِمَام الأمان الحقيقي يكمن في اتحاد العقلاء ضد أصحاب الرؤوس الساخنة، مع معادلة روسيا والصين للخلاص من الشر القائم والقادم، وإلّا فالعالم على المحك الصعب. أشهرٌ من نار، وفق المنظور، والمأمول أنها ستطفَأ بالردع التاريخي بدعم كل القوى التي ضاقت ذرعاً بالهيمنة المتسلّطة لدول الغرب.
هذا الردع سيكون، بقيادة روسيا ومن معها ممّن يريدون البقاء في قيد الحياة، ردعاً دفاعياً لن يكون مكلفاً كما ستكون التكلفة في حال لم يوضع حد لهذه الضباع الهائجة. والفرصة مواتية أكثر من أي وقت مضى. الوقت دائماً ثمين، لكن ثمنه في هذه المرحلة بثمن البقاء، وكلما تأخّر العالم عن وضع حد لهؤلاء زادت أعدادهم وأعمارهم وخطرهم على البشرية.
هم تعمّدوا سياسات تدمير الدول، وعلينا الاعتراف بأنه لن تسقط هيمنة أميركا بسهولة، أو من دون كارثة عالمية، إلّا إذا سقطت من الداخل. وهناك عدة بوادر تدل على هذا الشيء، والعبرة تكمن في السرعة والدقة في استثمارها من القوى العالمية الصاعدة حالياً، والساعية لخلاص البشرية ودرء خطر ما هو أعظم، وخصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب الجماعي غاصت في بحر فضائح المعلومات الكاذبة، والتي أرادت إغراق العالم فيها، فغرقت هي، وباتت تتخبّط كالغريق بلا قشة، وفشلت في تحقيق كامل مبتغاها في عدة مناطق، عدّها يطول.
في الختام، كل من يعتقد أن هذه الحرب هي حرب روسيا وحدها خاطئ في حساباته. هذه حرب البشرية جمعاء ضد كل الظلم الذي عاشته طوال قرون، بل طوال آلاف الأعوام. والتاريخ سيشهد يوماً أن روسيا، وساندتها كل الدول والشعوب التي واجهت ورفضت أن تموت، تقود معادلة الخلاص كتفاً إلى كتف مع الصين، كدولتين كبريين، من الشرّ الأسود الجاثم منذ زمن على صدر هذا العالم.
تقود روسيا، ومعها حلفاء مخلصون، حرب الدفاع عن التاريخ والمبادئ والقيم والبشرية جمعاء، وحمايتها من كوارث مفتعلة، كانت قيد التنفيذ. ومن تابع بعقل ما جرى ويجري خلال العقدين الأخيرين، يعي تماماً أننا لا ننفخ في الهواء دخاناً، ولا نرمي شيحاً بريح. فروسيا، بقيادة الزعيم التاريخي فلاديمير بوتين، وبدعم الحلفاء القدامى الجدد، تحرّر نفسها رويداً رويداً من ثلاثين عاماً من التغريب ومحاولات القوى الخفية القضاء على كل القيم والمُثل والتاريخ.
وكان يتم ذلك لتثبيت السيطرة الإمبريالية، في كل أشكالها التاريخية والسياسية والثقافية والاقتصادية والمالية والإعلامية، وإفشال تلاقي الدول المناهضة لها، وعلى رأسها روسيا والصين، نحو التحرّر من السيطرة والهيمنة لمن سمّاهم أحد منظّري التغيير في العالم الحديث، بهمس، بأنهم “أناس من عالم آخر”، علينا بمقاومتهم، وإلّا فلن نبقى ولن يبقى من البشرية أحد.
في المحصّلة، إنّ تحرّر روسيا هو تحرّر العالم بأمانه بعد القضاء على خمسة آلاف عام من سيطرة قوى خفية على العالم، عاثت فيه قتلاً ودماراً في كل مكان لإبقاء سيطرتها. هذه القوى ألمح إليها الرئيس فلاديمير بوتين في عدة محطات، وتحدّث عنها بصراحة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
وإن كان هذا العالم يريد التحرّر فعلاً والعيش بشيء من السلام والاستقرار، فعلى جميع محبّي السلام في العالم شبك أيديهم بيد روسيا ومن معها، على وجه السرعة، وخصوصاً الحلفاء التاريخيين في منطقة الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. هذه البلدان وهذه الشعوب عانت وما زالت تعاني الويلات من هؤلاء الملاعين، واليوم يبدو أنه حان وقت الحساب، والفرصة قد لا تتكرّر.
في الوقت ذاته، لا بدّ من الانتباه إلى أن هؤلاء المجرمين، الذين يشكّل السلام والاستقرار أكبر تهديد لهم، ما زالوا يلعبون بالنار، وسيحاولون ما استطاعوا، حتى آخر رمق فيهم، تنفيذ مخططاتهم غير الأخلاقية والمجنونة، ولن يسمحوا باستكمال ما يجري من تغيّر في العالم، لأنّ في ذلك فناءهم.
نحن البسطاء بتنا نعي أن الحرب الدائرة هي لإنقاذ البشرية ممّا كان وما زال مرسوماً. يعني هي حرب الجميع. لا نقول إنّهم ليسوا أقوياء وأصبحوا ضعفاء بما يكفي للجمهم، لكن نعلم بأن القدرة على الانتصار عليهم متوافرة حالياً، كما لم يكن من ذي قبل.
الميادين نت