كتب عمر معربوني | وجودية الكيان الإسرائيلي بين حزام النار ومواجهات الداخل
عمر معربوني | خبير عسكري خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية
العدّ العكسي لمرحلة التراجع بما يرتبط باستقرار الكيان الإسرائيلي بدأت بشكل فعلي مع الانسحاب القسري الأول لجيش الاحتلال من جنوب لبنان العام 2000، وتبعها انسحاب آخر عام 2005 من قطاع غزة وكان انسحاباً قسرياً أيضاً .
قرار الانسحاب عامي 2000 من لبنان و2005 من قطاع غزة تقررا بموجب تقدير دقيق للموقف في القيادتين السياسية والعسكرية بحسابات منطق أهون الشرّين، فإن كان الانسحاب شرّاً فالبقاء في جنوب لبنان وقطاع غزّة شرٌّ اكبر .
انطلاقاً من الإنسحابين دخل الكيان مرحلة مختلفة، وصفها حينها كبار القادة السياسيين وقادة الجيش العاملين والمتقاعدين بأنها مؤشر خطير على بدء مرحلة سيئة في تاريخ الكيان، وإذا ما ظلّت تسلك المسار التراجعي فإنها ستكون بمثابة تراكمات خطيرة تشبه حفر قبر الكيان ودفنه بما لا يقبل الجدل.
هذه الآراء حينها تزامنت مع دعوات الى البدء في صياغة مشروع مواجهة مختلف يستند الى المتغيرات التي طالت بنية قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وادراجها كتحدٍّ رئيسي يجب إيجاد الحلول له على المستويين العسكري والأمني بشكل خاص.
وفي استعراض تاريخي سريع كمثال واقعي عن أهمية ما تحقّق في 25 أيار /مايو عام 2000، فإنّ العدو الصهيوني أُجبِرَ على الإنسحاب لأول مرّة تحت ضغط الضربات العسكرية للمقاومة، وهو ما يمكن اعتباره تراجعاً جذرياً في صلب العقيدة العسكرية الصهيونية القائمة على احتلال الأرض بشكلٍ خاطف، اعتماداً على القوّة العسكرية المُفرطة والمُتفوّقة باستخدام ثنائي الصدمة سلاحي الطيران والمدرّعات.
ورغم أن حرب تشرين عام 1973 في مصر وسورية أعادت الاعتبار للمُقاتل العربي وأثبتت أنّ الجيش الذي لا يُقهَر يمكن تحقيق الهزيمة فيه، إلاّ أنّ خروج الجيش الصهيوني من لبنان جاء ليُثبت ما حصل عام 1973، بفارِق انّ موازين القوى التي كانت لمصلحة العدو الصهيوني حينها أعطت الفرصة له لاستعادة المبادرة نظراً لطبيعة المواجهة التي كانت قائمة على أساس مواجهة الجيوش النظامية.
كان التفوّق كبيراً لمصلحة الكيان الصهيوني وهو ما لم يكن قائماً في المواجهة بين حزب الله والجيش الصهيوني، حيث كنا أمام حرب لا متماثلة كان فيها حزب الله أقرب لجيش من الأشباح فوق الأرض وتحتها، ما أعطاه ميزة المناورة العالية وتحقيق الضربات السريعة والقاصِمة من خلال اعتماده على نمط الاستنزاف عبر الكمائن ومصائد المتفجّرات ومن ثم الانتقال للعمليات الجريئة خلال سنتي 1999 و 2000 بمهاجمة المواقع الصهيونية الحصينة وتصوير العمليات لاستخدام المشاهد في الحرب الإعلامية والنفسية، ما أجبر العدو على سحب جيشه إلى ما وراء الشريط الحدودي بين لبنان وفلسطين المحتلة، وبذلك دخلنا في مرحلةٍ صراعيةٍ مختلفةٍ وباتت الجغرافيا التي يتحرّك عليها حزب الله أوسع وأكثر أماناً ما أتاح له إنشاء قواعد مُحصّنة لإطلاق الصواريخ وشبكة أنفاق وخنادق والبدء بتنفيذ تمارين قتال قائمة على الدفاع وقتال البقعة، لمعرفة الحزب أن المواجهة لم تنته بعد مع الكيان الصهيوني.
بالنظر الى ما حصل على مدى 17 عاماً، وأعني مواجهة تموز / يوليو 2006 في لبنان، عاد القادة الصهاينة إلى الحديث عن خطط ستُغيِّر معالم المواجهة إنطلاقاً من مقولة: “مُقاتِلة إف – 16 تُقاتِل إلى جانب بندقية إم – 16”. إذا ما نظرنا إلى المقولة لوجدناها مقولة واعِدة تنطلق من تجارب الجيش الصهيوني وآخرها محاولات الدخول إلى قطاع غزَّة وقبلها محاولة الدخول إلى جنوب لبنان، حيث عجزت المدرّعات الصهيونية عن الثبات في المواقع التي اخترقتها والتي سمحت المقاومة في لبنان وفلسطين أصلاً اختراقها لوضعها ضمن الاستهداف.
الحديث ضمن الدوائر الصهيونية يدور هذه الأيام عن “خططٍ ثوريةٍ”، حيث تخضع القوات البرية لجيش العدو لعمليات تحسين وتطوير وإضافة فِرَق قتالية خاصة، واعتماد إستراتيجية المعركة المُشتركة حيث يتمّ القِتال فيها من باطن الأرض ومن فوقها والاستخدام المُكثَّف للحرب الإلكترونية والقتال في الشوارع واستخدام أسطح الأبنية، بالإضافة إلى تطوير فِرَق الهندسة الميدانية للتعامُل مع الأنفاق والمخابىء التي أنشأها حزب الله إلى جانب تزويد قوات الاقتحام بالمعلومات الاستخباراتية الدائمة عبر العملاء.
وباختصار فإن ثلاثة عناصر أساسية باتت الآن تشكل خطراً وجودياً على كيان العدو وهي:
1- معادلات الردع التي رسمتها وتثبِّتها المقاومة في لبنان وفلسطين ووصول نظرية عماد مغنية الى مرحلة التطبيق وهي نظرية حزام النار، حيث باتت الصواريخ قادرة على الوصول الى كامل أراضي فلسطين المحتلة من اليمن جنوباً (المسيرات طويلة المدى وصواريخ قدس المجنّحة)، وسورية والعراق شرقاً (تشكيلة واسعة من الصواريخ والمسيّرات)، ولبنان شمالاً (القوة الصاروخية الأكبر والأكثر دقّةً مع عدد كبير من المسيرات والصواريخ الدقيقة البالستية والمجنحة ومن بينها صواريخ ارض – بحر)، وغزة غرباً (التي باتت تمتلك حزمة واسعة من الصواريخ التي وصلت اكثر من مرّة الى تل ابيب).
2- الهجرة اليهودية المعاكسة والتي بدأت بشكل واضح منذ سنة 2007 وتستمر بالتصاعد، ففي تقرير للوكالة اليهودية حيث أورد رئيسها سالي مريدو أن أرقام الهجرة إلى فلسطين تراجعت بشكلٍ كبيرٍ منذ العام 2000 وهو عام انسحاب الجيش الصهيوني من لبنان، مقابل ارتفاع كبير في عدد المُهاجرين بشكلٍ عكسي إلى خارج فلسطين، والسبب هو تنامي حال فقدان الثقة بالوضع القائم والمخاوف الأمنية، وهو ما يعمل حزب الله على الاستثمار فيه منذ مواجهة تموز التي أحدثت ضرَراً بالِغاً في منظومة الردع الصهيونية، خصوصاً أنّ حزب الله بات يمتلك من الخبرة والسلاح ونوعيّته ما يجعل أية مواجهة قادمة شديدة التعقيد على الكيان الصهيوني، وهو الأمر الذي يمكن أن يُعجِّل في حدوث المواجهة بنفس الوقت الذي يمكن اعتباره مانِعاً لحدوثها.
3- الانقسام السياسي الحاد وفي مثال واحد هو الأكثر وضوحاً وتشاؤماً كان رئيس كيان الاحتلال الإسرائيلي، قد قال عشية التصويت على التعديلات القضائية: “أرى أمام عيني الانقسامات داخلنا، والتي أصبحت أكثر عمقاً وألمًا”، مضيفاً أنه “في هذا الوقت لا يسعني إلّا أن أفكر بجدّية في حقيقة أنه نشأت مرتين في التاريخ، دولة يهودية في أرض إسرائيل، وانهارت في المرتين قبل أن تبلغ عامها الثمانين”، وفق موقع “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلي. وتابع هرتسوغ: “أود أن أكرّر مراراً أنّ ما يشغلني أكثر من أي شيء في هذه الأيام، أنني قلق بشأن ما يحدث في المجتمع الإسرائيلي، فبين العام الـ75 لبنائنا، والـ80، نواجه ساعة اختبارات مصيرية”. هذا طبعا إضافة الى عشرات التصاريح التي ذهبت بنفس الإتجاه مؤكدة استحالة بقاء الكيان لأكثر من 80 سنة وهو ما يمكن الرجوع اليه في تصاريح قادة الكيان ومن بينهم نتنياهو .
في الخاتمة من المؤكد اننا دخلنا مع العدو مرحلة مختلفة في الصراع، فعلى الرغم من ان الكيان يعيش بوضع توسّع جيوسياسي في المنطقة والعالم، ويدخل في تحالفات إقليمية ودولية، ويوقّع على اتفاقات سياسية وعسكرية، إلا أن الواقع الداخلي لديه لا يتلاءم مع الواقع الدولي”. ولا مع المتغيرات التي تسير بشكل متسارع وخصوصاً الهبّات الشعبية والعمليات الفدائية المتنامية في الضفة الغربية والتي سأخصص لها مقالأ خاصاً، علماً بأني لم ادرجها ضمن عوامل وعناصر التأثير في وجودية الكيان لأنها برأيي تحتاج الى الإكتمال والنضج والتبلور الى الحد الذي يمكن من خلالها اعتبارها عنصراً اساسياً، وهو ما يحتاج الوقت كعامل طبيعي واجباري في الوصول الى الثبات كعنصر تأثير في الصراع.