كتبت رنا الساحلي | طفلة بالرداء الأخضر.. وضحايا الزلزال الذي لا أسماء فيه!
رنا الساحلي | كاتبة واعلامية لبنانية
حسناً يا صديقي، ترددت كثيراً قبل أن أكتب لك هذه الأسطر…
ربما هو الخجل من بوح الحقيقة، أو حتى الاختباء خلف نبرة الصوت التي باتت تلازمني منذ السادس من شهر شباط المنصرم.
ربما هو التلطّي وإظهار أنني أقوى من كل تلك المصائب والأزمات التي باتت تلاحقنا يوماً بعد يوم.
نعم. صبرنا.. تحملنا.. استيقظنا.. في كل يوم ادّعينا أن الغد سيكون أجمل.. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير… اليوم يا صديقي هو أسوأ من البارحة، والبارحة أسوأ من شهور مضت… لم نعد نحمل التفاؤل في عيوننا.. باتت أيامنا مثقلة بالهموم وانتظار الآتي…
أَوَ تدري ما حصل لنا في 6 شباط 2023؟! لا بد أنك سمعت، إن كان لديك وسائل تواصل اجتماعي حيث أنت، عن هزّات أرضية ضربتنا وضربت كل ما نحتويه من حب وإرادة!
لا بد أنك مررت، ولو عن طريق الخطأ، على أخبارنا التي باتت مهزوزة الأفكار.. مرتعشة إلى حدود اللاشعور بأننا سكان هذه الأرض!
أتدري ما الذي شجعني على الكتابة إليك؟ إنها صورة واحدة رسمت في مخيلتي كل أشجاننا معدومة الأحاسيس حتى النخاع الشوكي…
صورة رأيتها على هاتفي الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة مع كل هزة ارتدادية يشعر بها… صورة لقبر صغير كُتب عليه “مجهولة الهوية.. طفلة لابسي كنزة خضرة”!
نعم، تلك الفتاة ذات الرداء الأخضر شجعتني أن أبوح، ولو بأحرف يتهجأها الأطفال، لأصف لك حالتي هذه الليلة…
أتراها تاهت عن أمها بين تلك القبور؟ ما اسمها يا إلهي؟! هل كانت نائمة لوحدها عندما حصل الزلزال؟! هل شعرت بالبرد في تلك الليلة القارصة؟! أم أن الركام غطى جسدها النحيل فلم تصل زخات المطر إلى جلدها الندي؟! هل تشابكت خُصيلات شعرها على وجهها الصغير.. أم كانت تخبئه من البرد داخل قبعة صغيرة؟ هل رأت الموت قبل أن يأتي في الحلم.. أم ربما سبقتها أمها فشعرت بالأمان ولم تخف؟!
لقد انقلب كياني.. منذ ذاك اليوم، لم أعد أنا “أنا”، ولم أعد أشعر بلذة الضحك… دوران، لعيان، حالة لا أدري كيف أصفها، وكأني انفصلت عن واقع الحياة في وطننا… لا شيء مهم أو يعني لي منذ ذاك الوقت. حالة اللامبالاة والانقطاع جعلتني أراقب بهدوء كل من تغيّر سلوكه…
نعم يا صديقي، أربعون ثانية كانت كفيلة أن تُحرّك نفوس البشر. في لحظة واحدة يتغيّر كل قدر… هو الله، إن أراد العقاب، يقلب كل هذا الكون. وإن أراد اللطف بعباده، أحاطهم من حيث لا يحتسبون…
أتدري ما الذي شجعني أيضاً على الكتابة إليك؟
مقال لصديقتي تحدّثت فيه عن ضحايا الزلزال… من دون أسماء تُذكر، بعد أن أنهكتهم الحروب والمجازر بإسم الدين. تحدثَتْ عما حصل خلف تلك الجدران الموصدة التي شهدت على عذابات لم يراها بشر، وعن آهات سمعتها الأرض قبل أبنائها. ربما لم تعد تحتمل كل هذا الأنين والأوجاع، فاهتزت وزلزلت، لتفيض بأوجاعها، وتضم أولئك الذين أتعبهم البشر…
لكن.. يا إلهي! أربعون ثانية، تجاوزت الأحزان والأوجاع كل المصائب.. ابتلعت الأرض البيوت والأموال والأنفاس… تساوى الجميع بلحظة، لا فرق بين فقير وغني ومسؤول وأبناء عامة الشعب… لقد انقلب كل شيئ. كلّ البيوت أصبحت ترابا ركاماً، لا لون ولا طعم للحياة بين جدرانه…
أتدري ما حصل لي ذاك اليوم؟ نمتُ متأخرة كعادتي، لكن اهتزاز السرير أوقظ كل ما في داخلي… هزة كبيرة، الله أكبر، جعلتني أركض باتجاه غرفة ابنتَيّ … “الله أكبر” علقت على لساني أرددها من دون توقف وأنا أنادي ابنتَيّ لأضمهما. لكن ما حيلتي؟ مَنْ سأُخبئ؟ الكبيرة أم الصغيرة؟! كيف سأحميهما؟! لا حيلة لمخلوق أمام ربٍ جليل جعل الأرض تهتز وكأنها سلسبيل من الماء يجري… حسناً.. ضعفت، استسلمت، الله عنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو… توقفت الأرض والجدران من حولي. هل أبكي أمامهما؟ أمام تلك العيون التي أظهرت ضعفها بلحظات قوة الإله؟ لا يجب أن أُظهر لهما خوفي. نعم يا صديقي، لم أُظهره لهما، على الرغم من أن الخوف ربما تسلل بين أضلعي وبان في تلعثمي أمامهما. ولكن لا بأس، سنذكر الإله لينجينا… فلنقرأ الدعاء والآيات، ونصلّي… هو الحافظ لكل دابة على الأرض، وما قدّر لنا من مكتوب في حياتنا سنحصل عليه…
أأخبرتك أني كنت خائفة؟! لقد مالت الجدران وكأنها تنحني، تتراقص أمام رياح هوجاء… لا لا لم اقصد رياحاً قادمة من الشرق إلينا. بل كانت الأرض تخبرنا أننا بشر فكفانا غروراً…
نعم يا صديقي، البشر باتوا وحوشاً انقطعت أحاسيسهم الإنسانية، كل يبحث عن مكانته.. عن سلطانه.. عن جمع أموال الدنيا ليكون هو السيد ويجعل غيره خادماً…
لقد باتوا يبحثون عن المناصب والمراكز، ونسوا أن الله قد يغيّر أحوالهم بلحظة. في وطني يتنافسون: من سيكون الرئيس؟ ومن سيأخذ حصة أكبر؟ ومن سيكون له الكلمة والنفوذ. لم يسألوا عن الجائع والمريض وحفاة الأقدام… يتباهون بالأرقام، وينسون أن هذه الأرض زرعت وسُيِّجَت بدماء الشهداء، لتبقى مصانة.
يا صديقي، أتذكر أني نجوت مرة، وثانية، وثالثة، ورابعة…؟
المرة الأولى، خلال انفجار بئر العبد الذي وضع للسيد محمد حسين فضل الله. رأيت في ذاك اليوم خُبث ما فعلت الأيادي السوداء… الأشلاء أمامي رغم سني عمري الأربعة… الدماء غطت كل الأماكن، وحتى المباني باتت ركاماً من جبال صغيرة. كل شيء ظننته لعبة خبيثة في ذلك اليوم، وكأنني أمام الثلج الأبيض، فالزجاج ـ لغشاوة عينَيَّ ـ افتكرته ثلجاً أضاء المكان بنوره!
المرة الثانية، كانت حرب تموز 2006، عندما نالت الصواريخ من ضاحيتي وبيتي ومنزل أهلي. لم يبق منهم سوى ركام وذكريات. كل شيء تناثر أمامي وكأنه حلم مضى. لم أستطع ان أُعيد ما سرقته تلك الصواريخ الإسرائيلية، لكنني استطعت أن احتفظ بكرامتي. ثلاثة وثلاثون يوماً، رغم القصف والدمار، إلا أننا انتصرنا ولم نكن خائفين، فهناك مَنْ كان يَصِلُ الليلَ بالنهار، يحمينا، يُشكّل رادعاً صلباً هزم جيشهم الذي لا يقهر… وأُعيدت أجمل مما كانت، ولكن عدنا وكأننا افتقدنا أرواحنا التي ظلت هناك تنتظر الأجمل الذي لم يعد يأتي، وكأن الحياة تضيق بنا يوماً بعد يوم.
المرة الثالثة، الانتصار على التكفيري الذي حاول أن يفجّر كل الأحياء البريئة. كفّرنا لأننا لا نشبهه بإيماننا ومعتقداتنا. حاول اغتصاب نمط حياتنا، والوصول إلينا بشتى الطرق… ونجونا مجدداً، وابتعد ذاك الخطر… هزّ دولاً قريبة من بلدنا. نكّل بأبنائهم. شرد الأطفال وسبى النساء… لقد استباحوا كل شيء، حتى ظنوا أنهم إرادة الله على الأرض ويده الممدودة، فازداد بطشهم… ولكن أبناء تلك الأوطان، بإيمانهم ووحدتهم، طردوه من تلك البقاع. رغم الشهداء الذين رووا أرض الوطن وسيّجوه بأجسادهم المقطعة.
كل هذا ولم أشعر بما شعرت به في المرة الرابعة… لقد هزتني هذه الهزة الأرضية. جعلتني أُدرك أكثر أن لا شيء مهم في هذه الحياة سوى حب الله، وحب البشر الذي يشبه حب الله، الصافي النظيف البعيد عن المصالح، الذي ينطلق من الله ويصل إليه…
أتدري يا صديقي أن سقف بيتي بات مشقّقاً ربما ينتظر الهزة الجديدة… لست أدري، لكنني منذ ذاك الحين عدت إلى الله أكثر… بت أُخبره كل شيء لحظة بلحظة. أراه ماثلاً بعيون أحبائي… أراسله وأحدّثه في أول أوقات الصلاة، أخاف ألا ألبّيها وتكون الخامسة التي لا أنجو منها…
منذ ذاك اليوم، شعرت أنني أصبحت حرة… لا أخاف من مدير قد ينزعج من تصرفاتي ولو كانت محقة… ولا من مسؤول أُراعيه لأن يده قد تصل إلى لقمة عيشي… لم أعد أخاف من شيء سوى الله…
يا صديقي، لقد استطعت التحرر من مخاوفي… استطعت التحرر من التفكير باليوم الآتي، ربما لن يأتي… استطعت التحرر من مخاوف إسمها أعباء الحياة… فالله هو المدبر لي بكل شيء… لقد تحررت من نفسي، فأنا اليوم نجوت… ولكن ربما في الخامسة سأكون من ضحايا الزلزال الذي لا أسماء فيه، كما قالت صديقتي…
يا صديقي… في آخر رسالتي، دعني أُخبرك أنك نجوت النجاة الأولى… ونحن بتنا ضحايا الحياة… فلك الحب والوفاء أيها الناجي في صفوف الشهداء… وصرت أنا الضحية مع الطفلة ذات الرداء الأخضر