كتب محمد فرج | قرار الحرب… لحظة بوتين أم لحظة روسيا؟
محمد فرج | رئيس تحرير موقع الميادين نت
عام مرّ على انطلاق المواجهة العسكرية بين روسيا والأطلسي في أوكرانيا. وعلى الرغم من أنّ أغلبية التفسيرات لسبب اختيار لحظة الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022م ذهبت في اتجاه “تجاوز عتبة الصبر الروسي”، أو “انكشاف مستويات تهيئة أوكرانيا لعضوية الناتو”، فإنّ بعض التفسيرات فضّل التركيز على شخص الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، واعتبار اختيار التوقيت لحظة تخصّه هو، بصورةٍ أساسية.
سيكولوجيا بوتين في مرآة الغرب
بعد شهور من انطلاق العملية العسكرية الروسية، كتبت كاتي تيثرنغتون مقالاً بعنوان “الجانب النفسي في حرب بوتين مع أوكرانيا”.
تنطلق الكاتبة من شخصية بوتين واعتباراته الشخصية في تفسير سبب اختيار لحظة الحرب، ويظهر ذلك جلياً في اختيار العنوان، “حرب بوتين”، لمقالها. تقول الكاتبة إنّ واحدة من أهم النقاط، لكنها الأقل طرحاً للنقاش، هي الخلفية الثقافية الشخصية لبوتين، وعمره.
في رأي الكاتبة، أن هذين العاملَين (الخلفية الثقافية والعمر) يحددان مسار الصراع. وبوتين لا يمكن أن يوقف الحرب وهو مشبع بما تسميه “القومية المفرطة” (ultra nationalism)، وهو أيضاً بلغ من العمر 70 عاماً، ويريد أن يترك بصمة (legacy) قبل أن يغادر عالم السياسة.
تَعُدّ الدراسات الغربية، إجمالاً، أن بوتين شخصية غامضة (dark personality)، تميل إلى التلاعب والخداع والنرجسية، وتفتقر إلى التعاطف، وتأخذ مخاطر عالية في قراراتها (High Risk Taker).
وتركز هذه الدراسات على تجربة بوتين في المخابرات السوفياتية، من دون أن يشهد حملة عسكرية، بل على العكس، ترافقت وطنيته العالية مع مشاهد أخرى، وهي تداعي الاتحاد السوفياتي وانهياره. ولجهة العمر، ترى الكاتبة أن بوتين، في عمر السبعين، سيكون أكثر استعداداً للمخاطرة، لأنه أكثر وعياً بفنائه.
يرسم القادة عادة (وليس بوتين وحده) صوراً موازية لقادة آخرين في تاريخهم (Analogy). وبالنسبة إلى بوتين، تبدو شخصية بطرس الأكبر الأكثر جاذبية، فهذا القيصر/الإمبراطور أنهى نزاعات داخلية شرسة دارت بين آل ميلوسلافسكي وآل ناريشكين، وهذا يشبه نجاح بوتين في إنهاء حالة التمزق الداخلي في روسيا الحديثة.
وبطرس الأكبر أيضاً أطلق حملة إلى القرم عام 1696م لمنع هجمات التتار، وفي مواجهة الإمبراطورية العثمانية (التي خفّف عداءه تجاهها لاحقاً ليتفرغ للمعارك في البلطيق والسويد وفنلندا). تنسجم مهارات بوتين الشخصية المتعددة مع تلك التي حظي بها بطرس الأكبر، الذي تعلّم شخصياً تجارة السفن وبناءها في هولندا، بهدف تقوية الأسطول البحري الروسي، الضعيف آنذاك.
يصف الغرب بوتين بعدم المرونة الإدراكية (cognitive inflexibility)، وقد يكون هذا التوصيف نسبياً، إذا ما قورن بوتين بشخصيات ضعيفة سبقته، كانت استسلمت لحالة الضعف الروسية، وأبدت “مرونة” في التفاهم مع الغرب (يلتسين وغورباتشوف).
قرار الحرب.. مسار روسيا وخيار بوتين
يبالغ الوسط الأكاديمي والإعلام الغربيان في اعتبار الحرب خياراً خاصاً ببوتين وشخصيته، وليست أمراً مرتبطاً بمسار روسيا وطموحاتها. ففي الوقت الذي يتم التركيز على سمات القومية المفرطة، وعدم المرونة الإدراكية، وغيرهما، يتم تجاهل مسار التحولات السياسية الداخلية في روسيا، والتي مثّل بوتين شخصياً جزءاً منها.
بعد الانهيار السوفياتي الكبير، كان يلتسين ووزير خارجيته كوزيراف يمثّلان التقارب اللانهائي مع الغرب، وصولاً إلى طلب الانضمام إلى الناتو، واعتبار الجيو – اقتصاد أكثر أهمية من الجيو – بوليتيك. في مواجهة هذا التيار، كان الشيوعيون (أو بقاياهم) في روسيا، بقيادة شخصية كاريزمية هي بريماكوف، التي كانت تعيش حالة نوستالجيا للاتحاد السوفياتي، وتُوْلي أهمية عالية للجيو بوليتيك، ولمفهوم الكتلة الشرقية، بصورة خاصة، وتقبَل فكرة إنعاش بعض مبادئ الحقبة السوفياتية (الاقتصادية بصورة محدَّدة).
مع انهيار التيار الأول، وإيصاله روسيا إلى حالة الفوضى والجوع، ومع عدم قدرة التيار الثاني على التكيّف مع الشروط الروسية الجديدة، ظهر الطريق الثالث، والذي تبلور في شخص فلاديمير بوتين، وهو تيار قومي – واقعي – براغماتي إلى حد ما.
تمثَّلت المبادئ العامة لهذا التيار بـ:
1. دعم الترابط بين الجمهوريات السوفياتية السابقة، لكن وفق منطق جديد.
2. مواجهة تمدد الناتو، وإن استلزم الأمر استخدام آليات الردع الاستراتيجي؛ “السلاح النووي” (يخطئ كثيرون في القول إن بوتين تحوّل من الرغبة في الانضمام إلى الغرب، إلى مواجهته. لكن على العكس، كان بوتين مصمّماً على نتائج محددة منذ البداية، لكنه ترك لآلية الوصول إليها حرية الاختيار بين المواجهة والتفاهم).
3. دعم بيئة أمنية تتفاهم فيها الصين والهند واليابان مع روسيا (لم يتحقق ذلك تحديداً في الشق الياباني).
4. الديمقراطية السيادية (صندوق الاقتراع أساسي، لكن السيادة بند ثابت).
5. الرأسمالية المحافظة (لا عودة إلى الاشتراكية، لكنّ رأس المال لن يكون هو الدولة)
6. استعادة الهوية الروسية (الأسرة والأرثوذكسية) في مواجهة عولمة القيم الأميركية.
يمكن القول إن خريطة الطريق، التي رسمها هذا التيار، والتي ساهم بوتين في الشق الأكبر منها، تمثّلت بعدة مراحل:
1. المرحلة الأولى (2000م-2008م)، بحيث تضمّنت، بصورة أساسية، حل الإشكاليات الداخلية (استخدام الخبرات الأكاديمية في بناء شركات وإنعاش السوق؛ لجم فوضى المافيا؛ تغيير العقيدة العسكرية للجيش؛ زيادة الإنفاق العسكري؛ تحسين رواتب الجنود وطاقم المؤسسة العسكرية).
2. المرحلة الثانية (2008م–2015م)، والتي امتدت إلى لحظة الدخول على الخط في سوريا، لكنها تضمّنت 3 خطوات مهمة: لجم جورجيا من الانضمام إلى الناتو؛ تفعيل الوسادة المالية الروسية، والتي تجاوزت الأزمة المالية العالمية؛ استعادة القرم.
3. المرحلة الثالثة، التي اشتبكت فيها روسيا مع الغرب في الشرق في سوريا، وصولاً إلى الجنوب الغربي في أميركا اللاتينية، عزّزت خلالها شبكة العلاقات الداخلية بالصين وإيران. كانت هذه المواجهة المتشابكة، والممتدة جغرافياً في أكثر من موقع، تتطلب “ذروة” في مكان محدد، فكان أوكرانيا.
لم تكن التوصيفات النفسية لبوتين، في ماكينات الإعلام الغربي، إلّا محاولات إعاقة لمراحل لا يرغب الغرب في أن تبلغها روسيا، ويصل إليها شبح قوتها البرية:
1. عندما ركزّ الإعلام الغربي على عنوان الشخصية الغامضة، لم تكن دوائر الغرب نفسها تعرف طبيعة المشروع، الذي جاء به الرجل، وكانت غير راضية عن حزمة الإصلاحات في العقيدة العسكرية وتحسين مرتبات الجنود، وتحديداُ في الفترة 2000م-2003م. عندما سُئل بوش الابن، من جانب الصحافة، وإلى جانبه بوتين: “هل تثق به (بوتين) حقاً؟”، تلعثم بوش أمام طلب بوتين “الخجول” آنذاك (في إمكاننا أن نكون أصدقاء لو أوقفتم تمدد الناتو عند حدودنا).
2. عندما ركّز الإعلام على النرجسية والديكتاتورية وعدم التعاطف، كانت مؤسسة راند ترفع توصياتها، عبر دراسة مموَّلة من سلاح الجو الأميركي، وتقول إن “الروس يحبّون رئيسهم الجديد، ومستعدون للتخلي عن جزء من الديمقراطية في سبيل استمراره في مشروعه”.
3. عندما وُصف بوتين بالقومي المتشدد، كانت ماكينة الدعاية الأميركية تحاول استعادة التيار الغربي الداعم للعولمة داخل روسيا.
4. عندما وُصف بوتين بعدم المرونة الإدراكية، كان ذلك رداً على تعنّته، في التفاوض، بشأن نقطة لا يتراجع عنها (العالم كما كان عام 1997م، لجهة حدود الناتو وحدود روسيا).
لقد تقاطع مسار روسيا مع مسار بوتين الشخصي، لذلك تقاطع مع دراسات التحليل النفسي الصادرة عن مراكز الغرب. وبناءً عليه، يصبح هذا التحليل النفسي فانتازيا فكرية محضة!
ليس من عيب في أن تختلط أحلام الرجال بمسار دولها. ربما كان حلم بطرس الأكبر أن يحفر اسمه في التاريخ، وتتحوّل القيصرية إلى إمبراطورية في عصر الإمبراطوريات، وحدث ذلك.
وربما كان ستالين محاصَراً بمتاعب المقارنة مع مفكرين من عصر الثورة، مثل لينين وتروتسكي، ولا سيما مع انشغاله بتفاصيل التنظيم والعمل الميداني أكثر من التنظير الفكري، وكان يريد أن يترك لنفسه بصمة قائد التحرير، لكنه، في كل الأحوال، اختار اللحظة الملائمة لروسيا والعالم في القضاء على النازية، فهل كانت لحظة بوتين، العام الماضي، متطابقة هي الأخرى مع لحظة روسيا؟
سيكشف العام الثاني من المواجهة المزيد…