كتب د . محمد سيد احمد | الطبقة الوسطى بين البقاء والتراجع والانهيار !!
الدكتور محمد سيد احمد | كاتب وباحث مصري
علاقتي بالطبقة الوسطى علاقة قديمة فقد ولدت في عائلة يمكن تصنيفها بأنها تنتمي للطبقة الوسطى المصرية, فالأب تاجر يمتلك متجراً صغيراً يعمل به أقل من عشرة أفراد, وبالتالي يمكن تصنيفه ضمن البرجوازية الصغيرة متقلبة الأحوال التي تعد أحد أهم مكونات الطبقة الوسطى, وعلى مدار سنوات عمري التي تجاوزت الخمسة عقود ونيف تأرجحت بين شرائح الطبقة الوسطى الثلاث ( العليا والوسطى والدنيا ) صعوداً وهبوطاً, وما بين الصعود والهبوط كانت المعايير الحاكمة للصعود والهبوط مختلفة ومتنوعة ومتأرجحة بين رأس المال الاقتصادي كعامل حاكم لعملية التصنيف الطبقي ورأس المال الثقافي والاجتماعي الذي أكد عليهما عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو كمحددات طبقية بجانب رأس المال الاقتصادي, هذا إلى جانب العاملين الايديولوجي والسياسي اللذين حددهما عالم السياسة اليوناني – الفرنسي نيكوس بولانتزاس كعوامل مساعدة في عملية التصنيف الطبقي بجوار العامل الاقتصادي, فالتصنيف الأولي وفقا للميلاد كان الموقع الاقتصادي للأب من العملية الانتاجية هو الحاكم, ثم انتقلنا إلى امتلاك رأس المال الثقافي عبر مراحل التعليم المختلفة, وهو ما جعلنا لاحقا على وعي مكننا من امتلاك موقف ايديولوجي وسياسي, استطعنا من خلاله تبوأ مكانة اجتماعية جعلتنا دائما ضمن التكوين البنيوي الأساسي للطبقة الوسطى المصرية.
ولم أدرك طبيعة تلك النشأة داخل أحضان الطبقة الوسطى إلا عندما التحقت بقسم علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي, حيث تلقيت أولى دروسي في هذا العلم, وكان من بين هذه الدروس درس الطبقات الاجتماعية, الذي يعد أحد أهم وأصعب الدروس في هذا العلم, وبالطبع يشكل درس الطبقة الوسطى الدرس الأكثر صعوبة وتعقيداً داخل درس الطبقات الاجتماعية, نظراُ للطبيعة الهلامية والفضفاضة لهذه الطبقة, وتعلمنا في قاعات الدرس أن الطبقة الوسطى هي رمانة الميزان لأي مجتمع بشري, فعندما تكون هي المكون الأكبر حجماً داخل المجتمع يصبح المجتمع في حالة من التوازن والاستقرار والسلم الاجتماعي, فكل المجتمعات التي تقدمت على السلم الحضاري نهضت على أكتاف الطبقة الوسطى, وخلال دراستي في مرحلة الماجستير اكتشفت أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط بشكل أو بآخر بالبناء الطبقي للمجتمع, فعند دراستي للقوى الاجتماعية المؤيدة لجماعات العنف السياسي الإسلامي اكتشفت أن هذه الجماعات جاءت من أحضان الطبقة الوسطى وتستمد أعضائها المؤيدين من بين أفراد هذه الطبقة, لذلك قررت في مرحلة الدكتوراه أن أدرس هذه الطبقة خاصة خطابها السياسي, ومن هنا برز الاهتمام الكبير الذي أفردته لدراسة الطبقة الوسطى المصرية التي ولدت كأحد أعضاءها, وعشت معاناتها, ولازالت أتجرع خيبة أمالها وحسراتها, وصرخات الألم التي تلم بها, كلما قامت الدولة عبر سياسات السلطة الحاكمة بالعمل ضد مصالحها وانتزاع مكتسباتها التي حققتها بجهود وتعب أبنائها.
ومن خلال الخبرة المتراكمة حول الطبقة الوسطى المصرية يمكننا التأكيد على خصوصية نشأة هذه الطبقة وتميزها عن نظيرتها الأوروبية, فقد نشأت الطبقة الوسطى المصرية في حضن الدولة, ولم تستطع الفكاك منها لتلعب دوراُ مستقلاً لصالح أعضائها, بل ظلت الدولة هي المانح والداعم للطبقة بل والمسيطرة على حركتها والمتحكمة في مصيرها, فعندما ترضى عنها الدولة تنتعش وتتحسن أوضاعها, وعندما تغضب عليها تتدهور أحوالها, وفي هذا السياق يمكننا تقسيم التاريخ المصري الحديث منذ نشأة الطبقة الوسطى بطريقة تلقائية أثناء بناء محمد علي لدولته الحديثة لعدة مراحل تشهد على التحولات الجذرية التي عصفت بالطبقة الوسطى, وتمثلت المرحلة الأولى في نشأة الطبقة وازدهارها في عصر محمد علي حيث أرسل أبناء الفلاحين المصريين النابغين لبعثات للدراسة بالخارج وعند عودتهم احتلوا مواقعهم في المشروعات المختلفة التي قام محمد علي بتشييدها في كافة المجالات, وكان التعليم هو الوسيلة التي صعد بها أبناء الفلاحين من الطبقة الدنيا إلى رحاب الطبقة الوسطى البازغة الجديدة, ثم جاءت المرحلة الثانية والتي تراجعت فيها أدوار الطبقة الوسطى الناشئة في عهد خلفاء محمد علي نظراً لتراجع المشروع التنموي والتحديثي لدولته الذي تم التآمر عليه وتحجيمه بعد اتفاقية لندن 1840, وأتت المرحلة الثالثة مع ثورة 23 يوليو 1952 حيث برزت أدوارها وازداد حجمها مع المشروع الوطني التنموي المستقل الذي تبنته الدولة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات والذي تم التآمر عليه وكسره في نكسة 5 يونيو 1967, وجاءت المرحلة الرابعة مع مطلع السبعينيات وتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي والتي تراجعت فيها مكتسباتها بعد تخلي الدولة عن مشروعها الوطني المستقل والدوران في فلك التبعية للنظام الرأسمالي العالمي, ثم أتت المرحلة الخامسة مع تطبيق سياسات التكيف الهيكلي والخصخصة مع مطلع التسعينيات حيث بدأت الدولة في التخلي التدريجي عن مسؤوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها الذين يعتمدون على الدعم في التعليم والصحة والغذاء أحد أهم مقومات حفاظ الطبقة الوسطى على مواقعها الطبقية وبذلك دخلت الطبقة في أزمة طاحنة, ومع أحداث 25 يناير 2011 جاءت المرحلة الأخيرة للتحولات الدراماتيكية للطبقة الوسطى حيث دخلت مرحلة الانهيار نتيجة إعلان الدولة التخلي النهائي عن دعم هذه الطبقة والتقدم نحو التبعية الكاملة للمشروع الرأسمالي الغربي الذي يفرض شروطه برفع الدعم بشكل كامل على جميع السلع والخدمات, وبذلك تدخل الطبقة الوسطى في مرحلة الموت الإكلينيكي وتحتاج لمعجزة للعودة مرة أخرى للحياة, اللهم بلغت اللهم فاشهد.