كتب رفعت البدوي | وهج القضية الفلسطينية
رفعت ابراهيم البدوي | رئيس ندوة العمل الوطني
استحوذت القضية الفلسطينية على اهتمام الشعب العربي واحتلت سلم أولياته، طوال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثانية، باعتبارها القضية المركزية للعرب وكونها تمثل الحق العربي المسلوب، وقضية إنسانية وحقوقية لشعب عربي احتلت أرضه، وانطلاقاً من الواجب العربي في الدفاع عن فلسطين التاريخية، ومؤازرة حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، واستعادة أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي، والعيش في كنف وطنهم فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.
ومع تداول ما يسمى بمبادرات السلام، تسلل إلى العقل العربي عامل الوهن مع تقبل فكرة السلام مع العدو الإسرائيلي، بدءاً من اتفاق كامب ديفيد 1979 وبعدها مؤتمر مدريد 1991 واتفاق أوسلو المذل 1993 مرورا بالمبادرة العربية للسلام في مؤتمر بيروت عام 2002، الأمر الذي ادخل القضية الفلسطينية في عوامل عدة متشابكة ومعقدة عربياً ودولياً، وسلب منها بريق اهتمام العرب، خصوصاً بعد بروز مواقف عربية تراوحت بين مؤيد للسلام مع العدو الإسرائيلي، رغم رفض الأخير الالتزام بأي من تلك المبادرات الآنفة الذكر، وبين رافض للسلام لكونه لا يضمن حقوق الفلسطينيين.
أما العامل الذي أسهم في إضعاف الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية وإفقادها وهجها، هو الانقسام العربي الذي انعكس انقساماً فلسطينياً، والذي ترجم عبر معارك إعلامية واتهامات متبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية المؤيدة لاتفاق أوسلو، وبين الفصائل الفلسطينية الرافضة لأوسلو، واتهامها للسلطة الفلسطينية بتخليها عن البندقية وعن مبدأ الكفاح المسلح، وبالتالي انصياع السلطة للضغوط الأميركية الإسرائيلية، الأمر الذي هدد بتلاشي الاهتمام بالقضية الفلسطينية وضياع حق العودة وبالتالي ضياع فلسطين كوطن للفلسطينيين.
الصراع بين منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية المعارضة، اخذ منحى الصراع الفلسطيني الداخلي للاستحواذ على السلطة، فكل الجهات والفصائل الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها السياسية والعقائدية، لم تبد اهتماماً بإعادة تقييم جدي للمرحلة بقدر ما كان كل طرف يسعى إلى التقيد بأجندة الدول الداعمة له، عربية كانت أم غير عربية، وعلى حساب القضية الفلسطينية.
أما عامل الخطاب الإعلامي الفلسطيني المبالغ فيه، المتمثل في رفع شعارات للمقاومة مثل «وحدة الساحات» أو «سيف القدس»، فقد ترك انطباعاً بأن المقاومة الفلسطينية باتت تمتلك من القوة العسكرية ما يجعلها نداً للعدوان الصهيوني، المتكرر على مدينة القدس، وبإمكانها وقف انتهاك المستعمرين لمقدساتها، لكن الحقيقة المرة هي إن تلك الشعارات لم تترجم فعلياً على أرض الواقع، واستمرت اعتداءات المستوطنين اليومية على مدينة القدس، واستفحل القتل المتعمد وعمليات اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية، وزادت وتيرة هدم المنازل وتهجير الفلسطينيين، تمهيداً لإحداث تغيير ديموغرافي في القدس لصالح المستوطنين الصهاينة.
وفي موقف ترك الكثير من علامات الاستفهام حول وحدة قرار وأهداف المقاومة الفلسطينية، تُركت حركة الجهاد الإسلامي وحيدة في مواجهة العدو الصهيوني، مقابل انكفاء مبهم وغير مبرر لحركة حماس في المواجهة، وكأن معركة الجهاد مع العدو الإسرائيلي تختلف عن أهداف معركة حماس مع ذات العدو، ولذلك بقيت الشعارات الفلسطينية معطلة، وكشفت عن اعتوار في تقييم الموقف حتى لا نقول ارتهان البعض منها، وابتعادها عن انتهاج نهج المقاومة الحقيقية، لتحقيق الهدف الواحد ضد عدو واحد من اجل وطن واحد اسمه فلسطين.
لم تبد فصائل المقاومة الفلسطينية الجدية المطلوبة في الدفاع عن مدينة القدس، ولم تنجح بردع المستوطنين من تدنيس المقدسات بشكل يومي، تحت ذرائع واهية، تارة خوفاً من حصار قد تفرضه مصر على المعابر المشتركة مع غزة، أو تجنباً لانقطاع التمويل من دولة قطر، وتارة أخرى بحجة تجنب عقاب الحصار والتجويع الأميركي الإسرائيلي الذي قد يفرض على الفلسطينيين.
ومن العوامل التي أسهمت في تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية هو عامل ربط فلسطين أو المقاومة فيها بالإسلام السياسي، ما جعلها تبدو وكأنها قضية تخص جماعات دينية محددة، الأمر الذي أثار نفورا لدى بعض الدول العربية خاصة المناهضة لحركة الإخوان المسلمين، بعد محاولات التنظيم المدعومة من أجهزة مخابرات أميركية بريطانية وتركية للاستيلاء على السلطة، في كل من مصر وتونس وليبيا والسودان وسورية، وللأسف بمشاركة بعض الفصائل الفلسطينية، التي أضاعت بوصلة فلسطين وتفرغت لتنفيذ أجندة دول عربية خليجية مدعومة من أميركا وتركيا وقطر بهدف إسقاط سورية الدولة والنظام كآخر قلاع الممانعة.
خسرت القضية الفلسطينية فرصة استنهاض الشارع العربي وذروة الخسارة تمثلت بالسكوت عن التطبيع بمعزل عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وبهذا المعنى تمكنت إسرائيل من تسجيل خطوات متقدمة منتهزة فرصة تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، ونستطيع القول إن إسرائيل نجحت في إحداث اختراق الصف العربي لمصلحتها، من خلال تهافت بعض الدول العربية نحو تطبيع العلاقات معها، مقابل إشعال الثورات والحروب الإثنية والعرقية وعلى وجه الخصوص، في الدول العربية التي لم تتخل عن الحق الفلسطيني، مثل سورية ولبنان والعراق وتونس وليبيا واليمن وحتى السودان والجزائر.
لا غلو بالقول إن الدول العربية المجاورة لفلسطين كمصر والأردن ولبنان وسورية وحتى العراق، تعاني حالة جفاف من مصادر العملات الأجنبية وانهيار اقتصادي وشح في المواد النفطية والحياتية والدوائية، ونقص ملحوظ في موارد الدولة جراء الحصار الأميركي الجائر بحق دولنا وشعوبنا العربية المناصرة لفلسطين، مقابل تمكين اقتصاد إسرائيل من الازدهار، وكل هذا الحصار هدفه إشغال وإشعال الدول المحيطة بفلسطين ومنعها من النمو، وعن تقديم الدعم لفلسطين والفلسطينيين.
إن الحصار الأميركي الغربي العربي الجائر وانهيار اقتصادات الدول الداعمة لقضية فلسطين هدفه تجويع شعوب تلك الدول وإيصالهم إلى مرحلة اليأس، والمطالبة علناً بالتخلي عن القضية الفلسطينية، والقبول بالتطبيع كأمر لا مفر منه تجنباً للجوع والفقر، وبهدف وضع شعوبنا أمام خيار إما التجويع أو القبول بالتطبيع المذل مع كيان غاصب ومحتل ولو على حساب فلسطين وعلى حساب تهويد القدس.
لا عجب من الاعتراف، بأن الشعب العربي المجاور لفلسطين، وخصوصاً الجيل الجديد لم يعد مهتماً بالقضية الفلسطينية، ولم يعر مقاومة العدو الصهيوني اي اهتمام، بعدما أضحى يواجه المستقبل بتشاؤم، ولأنه وضع بين خيار التجويع أو التطبيع المهين مع الكيان المحتل لفلسطين.
إن الطريق الوحيد لاستعادة وهج القضية الفلسطينية إلى سابق عهده، هو إعادة تقييم وإجراء نقد ذاتي فلسطيني حقيقي، للوصول إلى رؤى وأهداف موحدة، تمنح المقاومة الفلسطينية فرصة تنفيذ مضمون شعاري «وحدة الساحات» و«سيف القدس»، وبشكل فعلي وجدي ما يجعل العدو الإسرائيلي مدركاً جدية المقاومة في إرساء معادلة الردع، ولوقف عمليات اغتيال الفلسطينيين وهدم منازلهم ولمنع استمرار عملية التغيير الديموغرافي الحاصلة في القدس.
إن تفعيل عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة وتحديداً في مناطق الضفة الغربية، كفيلة باستنزاف وإنهاك قدرات العدو الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، أما البناء على اندفاعة وحماسة الجيل الفلسطيني الاستشهادي المقاوم، خارج أي حسابات عقائدية أو حزبية ضيقة، وبعيداً عن أي أجندات خارجية، فهو السبيل الوحيد الضامن لاستعادة وهج القضية الفلسطينية.