كتب حسني محلي | “القرن التركي”.. هل يحكم إردوغان مئة سنة؟
حسني محلي | باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي
أعلن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الجمعة مشروعه الذي سماه “قرن تركيا” أو “القرن التركي”، وتضمن رؤيته الخاصة بصفته زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم لمجمل المشاريع والخطط للسنوات المئة المقبلة وكأنه سيحكم حتى ذلك التاريخ، فالرئيس إردوغان الذي يركز منذ فترة طويلة، وفي معظم خطاباته على ثلاثة تواريخ رئيسة هي: الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية عام 2023، والذكري السنوية 600 لفتح محمد الفاتح إسطنبول عام 1453، وذكرى الألفية لدخول السلطان البسلان الأناضول عام 1071 يريد أن يقول لأتباعه وأنصاره إن أفكاره ستحكم تركيا حتى هذه التواريخ.
وإردوغان الذي يبدو أنه نسي أنه يحكم تركيا منذ عشرين عاماً خرج الجمعة، وفي احتفال أعدّ له منذ فترة طويلة، ليشرح للشعب التركي المشاريع التي يعتزم تنفيذها في السنوات المقبلة على الصعيدين الداخلي والخارجي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً وكأنه تسلّم السلطة حديثاً.
ودفع ذلك المعارضة إلى الاستهزاء بخطط ومشاريع إردوغان الخيالية وعدّت خطابه إثباتاً واضحاً وعملياً لإفلاسه السياسي، بعد أن خلق لتركيا ما يكفيها من المشكلات داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، لم يكن هذا الإفلاس هو الوحيد في انتقادات المعارضة لإردوغان، إذ تعرّض لهجوم عنيف من معارضيه الذين قالوا “إن ما يسعى إليه إردوغان هو التخلّص من الجمهورية التركية التي استغل سنويّتها التاسعة والتسعين ليعلن انطلاقة “القرن التركي” متهرباً من الحديث بإسهاب عن الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك قبل في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923. ويرجّح كثيرون أن يتخلص إردوغان من إرثها التاريخي قبل أن تحتفل بمئويتها العام المقبل، هذا بالطبع إن فاز في انتخابات مايو/أيار المقبل. ويعرف الجميع أن هذه الانتخابات ستكون مصيرية ليس بالنسبة إلى مستقبل جمهورية أتاتورك وحسب، بل لإردوغان والدولة والأمة التركية كذلك التي يسعى إردوغان لأسلمتها منذ فترة طويلة، خصوصاً بعد صعود التيار الإسلامي في المنطقة عقب ما يسمّى الربيع العربي.
وكان مشروع إردوغان الداخلي هذا هو السبب الرئيس في التدخل التركي المباشر في تطورات وأحداث المنطقة وما زال، كما هي الحال في سوريا وليبيا والصومال والعراق لمصلحة حركات الإسلام السياسي بمختلف ميولها واتجاهاتها السلمية منها والمسلحة. وتطلب كل ذلك من إردوغان إطلاق العنان لكل الطرق والتكايا والزوايا والمجموعات الدينية التي نشطت على نحو كبير، وباتت تسيطر على قطاعات واسعة من مؤسسات الدولة، بعد أن حلت محل أتباع وأنصار الداعية فتح الله غولن حليف إردوغان السابق.
وجاءت محاولة الانقلاب الفاشلة الغامضة في تموز/يوليو 2016 لتنهي هذا التحالف، فقام إردوغان بطرد ما لا يقل عن 200 ألف من أتباع غولن في الجيش والأمن والاستخبارات وجميع مرافق ومؤسسات الدولة، بعد أن اتهم أميركا وألمانيا ودولاً أخرى بما فيها الإمارات بدعم الانقلاب، وزعيمه مقيم في أميركا منذ عام 1999.
واستغل إردوغان هذا الانقلاب الفاشل لإعلان حالة الطوارئ وإجراء استفتاء على الدستور ساعده على تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي ليصبح حاكم البلاد المطلق، وكما يتمنى هو إلى الأبد من دون أي منازع أو منافس أو معارض بعد أن سيطر على الجيش والأمن والاستخبارات والقضاء، وهو ما تطلب منه إصدار العشرات من المراسيم الرئاسية والقوانين والقرارات التي أنزلت ضربات قاضية على أبسط معايير الديمقراطية وحرية التعبير والصحافة بعد أن سيطر على الإعلام الحكومي برمته وخمسة وتسعين في المئة من الإعلام الخاص، ومن دون أن يكون كل ذلك كافياً بالنسبة إلى إردوغان الذي تحدّث في خطاب الجمعة عن خطته لصياغة دستور جديد للبلاد، وكأًن الدستور الذي استفتى فيه الشعب في نيسان/أبريل 2017 صاغه آخرون وليس هو شخصياً.
وكأن قانون الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي، والذي يقضي بالسجن فترة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات لكل من يخالف السياستين الداخلية والخارجية والذي أقره البرلمان الأسبوع الماضي، لم يكن كافياً بالنسبة إلى إردوغان الذي وعد الشعب التركي بمزيد من الديمقراطية والحريات الفردية والسياسية ولو لم يبقَ منها إلا قليل.
وكما يخطط إردوغان للقضاء على الحريات نهائياً هو يخطط للتخلص من إرث أتاتورك وجمهوريته العلمانية، وقد قال فيها، الأسبوع الماضي، ماهر آونال، نائب رئيس العدالة والتنمية “إنها قضت على اللغة والتاريخ التركي بعد أن ألغت الأحرف العثمانية العربية وحلت محلها الأحرف اللاتينية” ناسياً أن نسبة الأمية عندما أعلن أتاتورك جمهوريته عام 1923 كانت أكثر من 98%.
وفي جميع الحالات، ومهما سخرت المعارضة من وعود إردوغان وشعاراته القومية والتاريخية والدينية الكبيرة، فاستطلاعات الرأي ما زالت تقول إن نحو 35% من الناخبين الأتراك ما زالوا يصدّقون إردوغان، بصرف النظر عن سبب هذا التصديق ومبرراته وأحاديثه المبالغ فيها، وعدم صحتها.
وعلى سبيل المثال أقنع إردوغان ناخبيه بأنهم نجحوا في صناعة أول سيارة كهربائية وطنية مئة في المئة، مع أن محرّك السيارة ألمانيّ، والبطارية صينية، والهيكل بريطاني، والتصميم إيطالي، وأقنعهم بشعاراته ومقولاته القومية التاريخية التي جعلت “من تركيا دولة عظيمة تتحدّى العالم”، على الرغم من الأزمات الاقتصادية والمالية الخطرة التي تعانيها دولةً وشعباً.
وتبقى استدارات إردوغان في السياسة الخارجية التي أفلست الهمّ الأخير في اهتمامات أتباع إردوغان، الذين يرون في ذلك “حنكة سياسية” أثبتها عملياً عندما أقنع أتباعه وأنصاره بأن كل ما قام ويقوم به هو من أجل الأمة والدولة التركية، بما في ذلك قصص الفساد الخيالية التي طاولته وطاولت كلّ من حوله، ليقول في خطاب الجمعة إنه جعل من تركيا “اقتصاداً عالمياً، والإنسان التركي غنياً وسعيداً وحراً”!
ويبقى الرهان الأخير على مدى نجاح أحزاب وقوى المعارضة في إقناع الناخب التركي بانتكاسات إردوغان الداخلية والخارجية طوال فترة حكمه منذ عشرين عاماً بعد أن أثبتت كل الاستطلاعات أن نحو ستين في المئة من الشعب التركي الذي يعاني في حياته اليومية ويلات إردوغان لن يصوّت له عندما يكون البديل أكثر نزاهة وصدقاً وديمقراطية وعلمانية، ومن دون أن يكون واضحاً مدى أهمية الدعم الذي يحظى به إردوغان الآن من موسكو ومعظم العواصم الغربية بما فيها واشنطن والعواصم العربية والإقليمية بما فيها الدوحة و”تل أبيب” وأبو ظبي.
إن استمرار دعمها قد يضمن لإردوغان البقاء في السلطة إن لم يكن لمئة سنة فعلى الأقل ما يكفيه من السنوات ليجعل من تركيا ملكية شرق أوسطية بملامح عثمانية دينية. وقد يرتاح الغرب بعودتها إلى الأناضول لينتقم من أتاتورك الذي انتصر على فرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليونان، وعلى نحو غير مباشر أميركا وأقام جمهوريته العلمانية بدعم من لينين، ويتمنى هذا الغرب “للقرن التركي” الذي أعلنه إردوغان أن يخدم مشاريعه مئة سنة مقبلة لتبقى تركيا مصدر القلق الحقيقي لروسيا التي كانت العدو التقليدي والتاريخي للإمبراطورية العثمانية.
وربما لهذا السبب كتب غيفورغ ميرزايان في صحيفة “فزغلياد” الروسية قبل أيام يتحدث عن “مطامع تركيا في فضاء الاتحاد السوفياتي السابق، بل داخل روسيا نفسها” معتبراً ذلك” خطراً مصيرياً لا يجوز تجاهله أبداً”.