كتبت د . نازك بدير |الهويّات الضّائعة في المجتمع المتعدّد
الدكتورة نازك بدير | اكاديمية واستاذة جامعية
يعيش لبنان، حاله حال العديد من الدّول، تعدُّدًا دينيًا. وعلى الرّغم من مطالبة الكثيرين بضرورة العيش المشترك، وتقبُّل الآخر، إلّا أنّ ما يحصل يكاد يُثبت أنّها مجرّد فقاعات، لم ترقَ إلى صيغة خطاب موحّد، يجعل من التّعدديّة علاجًا للنزيف الممتدّ، بل على العكس، فمن بعد الأزمة الاقتصاديّة الأخيرة، وارتفاع نسبة الهجرة، ولا سيّما بين صفوف أبناء المسيحيّن، اشتدّت النّعرات الطّائفيّة التي لم تخبُ يومًا، لكنّها عادت إلى الواجهة، تارة خوفًا من تزايد الخلل الدّيموغرافي، وتارة أخرى باسم الدفاع عن” الهويّة”، وطورًا استقواءً بالخارج. لكن من منظور آخر، ثمّة من يرى أنّه معرّض للتّهميش، ولا ينال حقوقه كاملة، ويتعاملون معه بدونيّة، كما لو أنّه مواطن درجة ثالثة أو رابعة. وتاليًا، لا يُنظَر إليه بمثابة شريك في الوطن، إنّما، غير مرغوب به. صحيح أنّ المعابر قد أزيلت من الطّرقات، ومن على الجسور، لكنّ الصّفيح الصّدئ لا يزّال منغرزًا ما بين الضّلوع والرئتين…
عامًا بعد عام، يزداد الشّرخ بين الجماعات ذات الهويّات الثّقافية والطّائفيّة المتنوّعة، خاصّة أنّ غالبيّتها قد أسّست منظومة تربويّة متكاملة؛ إذ لكلّ منها نظامها التّعليمي، واستراتيجيّاتها، وأسسها، وترى مفهوم” هويّة لبنان” وكيانه، وسلطته، وسيادته، من منظورها الخاصّ. وتصدّر هذه المفاهيم والثّقافة” الخاصّة” عبر قنواتها التعليميّة، والصحيّة، والإعلاميّة، بما يناهض بناء مجتمع متجانس، موحّد، تذوب فيه الاختلافات، ويُذكي_ من خلال الأداء والحضور المتشنّج_ التّناوؤ، والتّنافر، والتّخاصم، والتّأذّي.
صحيح أنّنا نحيا على أرض واحدة، لكن في الواقع، يبدو أنّ الغالبيّة من كلّ جماعة ذات لون مختلف، تعيش في داخل قوقعة خاصّة بها، من دون أن تعطي نفسها فرصة رؤية الآخر بعينين حقيقيّتين، وبأذنين مفتوحتين، غير مرحّبة باجتيازه” الحدود” التي رسّمتها. ذلك كلّه يؤدّي إلى المزيد من الفوضى، وخلْق بنية مجتمعيّة هشّة في ظلّ غياب الدّولة. وكلّما ضعفَت شوكة أنظمة الحكومة، كلّما قويَت بعض تلك الجماعات، واستغلّت الفرص لفرْضِ سيطرتها، وتعزيز موقعها.
مصادر الثّروة في لبنان متوفّرة (التّعدّد الدّيني أنموذجًا) لكن لا يُعمَل على استثمارها لتكون معين قوّة، بل تتحوّل، بفعل التّعصُّب الأعمى، سلاحًا لتفكيك النّسيج الاجتماعي إلى جزيئات، والوطن إلى مربّعات ممزّقة، وهويّات ضائعة.