كتب علي كوثراني | معسكر التحرُّر يخسر جولةً من الصراع ماذا بعد عمران خان؟
علي كوثراني | كاتب وباحث لبناني
بالإطاحة بالرئيس عمران خان، خسر معسكر الصعود والتحرُّر في العالم جولةً من جولات الصراع أمام معسكر الهيمنة الأمريكيَّة، ولكنَّ الصراع مستمرٌّ ولم يُحسمْ بعد، وإنَّ خسارة هذه الجولة، وإن كانت نتائجها وَخِيمةً على المعسكر الأوَّل ومُعزِّزةً لموقع المعسكر الثاني، لا تنفي أنَّ المعسكر الأوَّل مازال في حالة تقدُّمٍ على الثاني.
مع ذلك، فإنَّ ما ضربه الانقلاب بالأمس ليس فقط مسيرة باكستان نحو التحرُّر الوطنيِّ وبناء الدولة المستقلَّة عن الهيمنة الأمريكيَّة بالتفاهم والتكامل مع الإقليم و”الشرق”، بل أيضًا التنسيق الثنائيُّ مع إيران الذي ساهم في تحرير أفغانستان وكذلك التنسيق الرباعيُّ مع إيران وروسيا والصين الذي أرسى نوعًا من الاستقرار في أفغانستان ووَصَلها بمبادرة “الحزام والطريق”.
بالمحصِّلة، عادت باكستان لتكون أداةً استعماريَّةً عدوانيَّةً للتآمر على إيران، ولنشر الفوضى في أفغانستان، ولقطع الطريق أمام المبادرة الصينيَّة، ولمضايقة روسيا في الجمهوريَّات السوفييتيَّة السابقة المجاورة، ولابتزاز الهند وإثارتها، وربما أيضًا لمؤازرة قوى العدوان على اليمن… وهي جميعها أدوارٌ خبيثةٌ كان عمران خان قد أراح الباكستانيِّين وباقي شعوب معكسر الصعود والتحرُّر منها.
ومن باب استقاء العِبَر والدروس، لا جَلد الذات، إنَّه لواجبٌ علينا أن نعيَ أنَّ جهود عمران خان وفريقه في الداخل ومعهما الدول الصاعدة لم تكنْ كافيةً لضمان استمرار مسيرة التحرُّر وبناء الدولة في باكستان، إذ أنَّ التحرُّر لا يمكنه أن يتعايش مع الهيمنة، وأنَّها ستغلبه إن لم يغلبْها بالقطيعة معها، وأنَّ القطيعة مع الهيمنة حربٌ شاملةٌ على مستويات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر والجغرافيا والأمن والعسكر، وأنَّ هذه الحرب كانت تحتاج إلى مؤازةٍ أشدَّ من الدول الصاعدة بوجه الهيمنة، وأنَّ دون ذلك كلَّه خسارةٌ فادحةٌ مثل هذه تقع على رأس معسكرٍ بأكمله.
لا شكَّ إذن أنَّ الهيمنة الأمريكيَّة قد أحدثت خرقًا خطيرًا في جدار الصعود والتحرُّر، وأنَّها بهذا الخرق قد أوصلت رسالةً قاسيةً، ولأدواتها كتركيا الناتو ومشيخات النفط في الخليج، قبل أعدائها كفنزويلَّا مثلًا، بأنَّها مازالت تملك من الأوراق ما يسمح لها أن تردَّ على الانقلاب ضدَّها بانقلابٍ عليه أشدُّ وأشرس.
ولا شكَّ أيضًا أنَّ هذا الخرق قد أحدث هزَّةً قويَّةً في قلب الفضاء الأوراسيِّ، وأرسى منطلقًا لخلق حالةٍ من اختلال التوازن وزعزعة الاستقرار فيها، الأمر الذي يشكِّل ترجمةً للإستراتيجيَّة الأمريكيَّة العظمى (Grand Strategy) في هذه المنطقة تحديدًا، وهي منطقةٌ بالغة الغنى بالموارد، وذات موقعٍ جغرافيٍّ وسيطٍ بين الصين والهند وروسيا، وممرٌّ تجاريٌّ إجباريٌّ من قلب أسيا نحو أوروبَّا وإفريقيا والبحر المتوسِّط بينهما، وفوق ذلك موبوءةٌ بالتناقضات البينيَّة ومزروعةٌ بالرؤوس النوويَّة.
الأمر الذي يضع جميع قوى الصعود والتحرُّر في أوراسيا أمام واقعٍ صعبٍ لا بدَّ من التعامل معه، فورًا، وبحزمٍ وحذرٍ في آنٍ معًا. فإنَّ محاصرة هذا الخرق لمنع توسُّعه وانبعاث سمومه إلى الجوار يجب أن يكون قد أصبح الآن على رأس أولويَّات هذا المعسكر كمقدمةٍ لاستعادة باكستان من براثن الهيمنة الأمريكيَّة، وبحذرٍ شديدٍ لمنع انفجار هذه المنطقة بكلِّ تناقضاتها ورؤوسها النوويَّة، لا سيَّما وأنَّنا نعيش في زمنٍ لم تعدْ فيه الإمبراطوريَّة المأزومة تتورَّع عن تفجير أدواتها بخصومها، وها هي أوروبَّا الغربيَّة مثالٌ واضحٌ، وقد دُفعت دفعًا إلى شفير الانهيار والتفكُّك من جرَّاء العنت الأمريكيِّ ضد روسيا.
غنيٌّ عن القول طبعًا أنَّ انعكاسات هذا الانقلاب على الداخل الباكستانيِّ لا تقتصر على ما قد يحدثه من توتُّرٍ في الإقليم أو من تفجير الإقليم بأسره، بل على عرقلة مسيرة نهوض باكستان وتحرُّرها بأن تكون جزءًا متعاونًا ومتكاملًا في شتَّى المجالات مع جوارها ومع “الشرق” وما يحمله من فرصٍ تتناسب مع احتواء حاجات كتلتها البشريَّة الهائلة من الأمن والمعاش، الأمر الذي أعاد باكستان إلى المربَّع الأوَّل، وهو الالتزام بالدور المرسوم لها غربيًّا والاعتماد على ريوع النفط العربيِّ التي لم تعدْ تكفي العرب وحدهم أصلًا فضلًا عن أن تكفيها هي أيضًا، مما يُبقي بناها الاجتماعيَّة في تنافسٍ وصراعٍ بينيٍّ دائمٍ للفوز بالرضى الغربيِّ لكي لا تعاقب بحرمانها أو تقليص حصَّتها من هذا الريع، ولكنَّه هذه المرَّة تنافسٌ وصراعٌ أشدُّ ينذر بانفجارٍ اجتماعيٍّ نتيجةً لتفاقم الحاجة وتضاؤل الريع.
أما منطقتنا، فستؤثِّر خسارة هذه الجولة في باكستان عليها بشكلٍ مباشرٍ، فجبهة أفغانستان التي استقرَّت بدحر الاحتلال وإرساء التفاهمات الرباعيَّة قد تعود الآن لتشتعل من باب الأمن على أقلِّ تقديرٍ، وهذه المشاغلة في أفغانستان قد تؤثِّر على الجهد لتحرير العراق وسوريا، الأمر الذي قد يؤخِّر انطلاق مساعي كسر الهيمنة في لبنان.
قد لا تسمح المعلومات المتوفِّرة الآن بخوضٍ تفصيليٍّ في المآلات الممكنة للصراع والتحدِّيات المستجدَّة بعد انقلاب باكستان، إذ أنَّه ليس معلومًا بعد كيف سيتعامل معسكر الصعود والتحرُّر مع هذا الخرق ولا كيف سيكمل عمران خان نضاله بعد ما حدث، ولكنَّه من المهمِّ التنويه والتشديد أيضًا على أنَّ خسارة هذه الجولة لا تختصر مسار الصراع مع الإمبراطوريَّة الأمريكيَّة وهيمنتها.
طبعًا، ليس قول ذلك من باب درء اليأس، وإن كان هذا الباب مهمًّا لأنَّ اليائس حُكمًا مهزومٌ بلا معركةٍ، ومن هنا تحديدًا أصبح تيئيس الجماهير من التحرُّر ومساره أحد أبرز مهام نخب الهيمنة تاريخيًّا في البلاد المهيمَن عليها، إن للصدِّ عن سبيل التحرُّر أو للوسوسة في عقول المهيمَن عليهم وعلى بلادهم وتزيين التبعيَّة ومسارها في أعينهم.
استطرادًا، وعلى سبيل المثال، من هنا تبنَّت نخب الهيمنة في بلادنا سرديَّة “الربيع العربيِّ” و”الشعب يريد”، وصار خطاب “مقارعة الاستعمار وتحرير الأرض” لغةً خشبيًّةً، وأصبحت “الديموقراطيَّة” هي الموضة… ومن هنا بعد ذلك تبنَّت سرديَّة “ثورة ١٧ تشرين” و”مكافحة الفساد”، وصار الحديث عن دور الهيمنة الأمريكيَّة كمحرِّكٍ لهذا الأحداث مبالغةً حيث راح البعض يطلق نظريَّاته حول النِّسَب المئويَّة لأسهم الفساد الداخليِّ وأسهم التدخُّل الخارجيِّ في ما أطلقوا عليه اسم “الأزمة” إمعانًا في طمس حقيقة الصراع، وصار “التكامل مع الإقليم والتوجُّه شرقًا” أحلامًا جميلةً إنَّما غير واقعيَّةٍ، وصار القبول بشروط صندوق النقد والآمال المعقودة على تحسينها أهون الشرور ريثما “تتغيَّر موازين القوى” التي لا تعمى عن أيَّ تأثيرٍ لإرادة التحرُّر عند الشعوب المضطهدة والمهيمَن عليها.
بالعودة إلى موضوعنا، ينبع هذا القول من قراءة السياق العام للصراع في العالم بين معسكر الصعود والتحرُّر وبين معسكر الهيمنة، ومن وضع هذه الجولة في نصابها فيه كجولةٍ خسرها المعسكر الأوَّل مقابل جولاتٍ كثيرةٍ قد ربحها. فهل أدَّت الجهود الأمريكيَّة لمحاصرة وإضعاف الصين وروسيا إلى كسرهما، أم إلى العكس كما نرى؟ وهل أدَّت موجة الغزو وموجة “الربيع العربيِّ” وموجة الحصار الآن إلى انتصار الثورة المضادَّة في إيران واجتثاث قوى المقاومة من الإقليم، أم إلى العكس أيضًا؟ وهل نجحت مساعي الاستفراد بفنزويلَّا وهي في الحديقة الخلفيَّة للإمبراطوريَّة؟ أوليست أحوال دول وأشباه دول منظومة الهيمنة الآن، على المقلب الآخر، في أوروبَّا وتركيا والجزيرة العربيَّة في تراجعٍ مستمرٍّ لامس حدَّ الخطر الوجوديِّ؟ وهل أدَّت العقوبات إلى خنق المعاقَبين، أم إلى تراجع نظام السويفت ومعه التعامل بالدولار؟ وغنيٌّ عن الشرح أيضًا حال الكيان المخفر-الحاجز في بلادنا، وقد فقد جزءًا كبيرًا من قدرته الردعيَّة، وبات عاجزًا الآن عن ضبط ما احتلَّه عام ١٩٤٨ حتَّى.
ختامًا، إنَّ وحدة الصراع في العالم تحتِّم علينا قراءة المشهد كاملًا لاستخلاص الدروس وإنتاج رؤيةٍ شاملةٍ ووعيٍّ أعمق بالصراع يتيح لنا متابعة مسيرة تحرُّرنا بشكلٍ أتمَّ وأفعل. ولأنَّ القطيعة مع الهيمنة باقيةٌ كسبيلٍ وحيدٍ أمام الشعوب المضطهدة والمهيمَن على قرارها لكي تضع يدها على ثرواتها وتتصرَّف بها وفقًا لمصالحها، فإنَّ تجارب التحرُّر سوف تبقى حيَّةً في ذاكرة هذه الشعوب لتُتمِّمها وتطوِّرها وتبني عليها، وسوف يبقى عمران خان في ذاكرتها ذاك الفارس الوسيم الذي حاول تحرير باكستان فتكالبت عليه قوى الهيمنة وأدواتها، مع الأمل بأن لا تكون هذه آخر جولاته هو، وكامل الثقة بأنَّها لن تكون آخر جولات باكستان.