كتب ناصر قنديل | الفاتيكان وبكركي بين التطرّف والاعتدال: ماذا عن رئيس الجمهورية وحزب الله؟
ناصر قنديل | رئيس تحرير صحيفة البناء
– لا يمكن الحديث عن علاقة بكركي بالفاتيكان في رسم السياسات، بإحدى صفتي التبعية والاستقلال، ففي هذا الشق من العلاقة تشابك وتداخل بين موقع الفاتيكان كمرجع دولي لبكركي يوفر لها المظلة ويشكل قوة معنوية دولية لطرح قضايا وهموم واهتمامات يتفق عليها، وبين نظرة الفاتيكان وبكركي لهامش استقلالية متوافق عليه للكنيسة في رسم سياسات تقارب عبرها شؤون بلادها. وهذا التشابك في السياسة لا يظهر الا في المحطات النوعية والمفصلية التي ترافق التغييرات الكبرى، حين يستشرف الفاتيكان تحولات تستدعي الحذر وتنبئ بمخاطر فيدلي بدلوه استباقاً لتورط الكنيسة الوطنية، أي بكركي، بمواقف نابعة من زاوية نظر ضيقة محكومة بالعصبيات، أو الانفعالات، أو الحسابات المحلية دون رؤية المشهد الأبعد مدى دولياً وإقليمياً. وفيما عدا ذلك يتبنى الفاتيكان في الظروف العادية والتقليدية مطالب بكركي، ويعمل على مساندتها وتقديم الدعم لها على الساحتين الدولية والإقليمية.
– الفاتيكان كنيسة لاهوتيّة، لكنه لاعب سياسي من طراز أول، بحيث يصح القول «إن الفاتيكان يملك أصغر جيش في العالم، لكنه يملك أكبر جهاز مخابرات». والمقصود بجهاز المخابرات، مصادر المعلومات وقدرة التفكير والتأثير التي توفرها الكنائس المنتشرة عبر العالم وفي العواصم الكبرى، والفاعلية التي يتمتع بها الكرادلة في بلادهم ولدى حكامها، والخبرات التي يختزنونها كمتفرغين للشأن العام دون التورط باستنزاف السلطة لهم، والفاتيكان لا يترفع عن دخول حلبة السياسة المباشرة كما فعل مراراً، عندما يستشعر فرصة مؤاتية، وضرورة ملحة، كما حدث في ثورة بولندا التي مهدت لتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1989، في ظل معطيات تشير لقرب زوال الإمبراطورية السوفياتية، وفرصة الفاتيكان للعب دور محوري في ذلك، من موقع انتماء الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية للمعسكر الغربي، دون الوقوع في فخ التطابق مع سياسات حكومات الغرب وحساباتها، وحرصه الدائم على التمايز عن السياسات الأميركية في الشرق، وتجاه القضايا التي تهم المسلمين، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
– سعى البابا يوحنا بولس الثاني الذي قاد ثورة بولندا على الشيوعية السوفياتية، لتشجيع استقلال الكنيسة اللبنانية عن السياسات الغربية، ومصالحتها مع قضايا منطقتها، وكان هذا واضحاً مراراً، خلال زيارة البابا يوحنا الى لبنان عام 1997، وخلال دعوته للشبان الذين هتفوا له بالفرنسية والإنكليزية مرحبين، بقوله لهم «قولوها بالعربية لأنها أجمل»، وكان «رجاء من أجل لبنان» مليئاً بالمضامين الداعية للانفتاح على الشريك في الوطن والشريك في المنطقة، ولاحقا ترجم البابا يوحنا سعيه هذا لضمان مشاركة البطريرك نصرالله صفير له في زيارته الى سورية عام 2001، أملاً برعاية الفاتيكان لحوار بين سورية والكنيسة يحول دون صدام كان يخشى الفاتيكان حدوثه باستشرافه للمشهد الدولي والإقليمي مع تسلم المحافظين الجدد دفة السياسة الأميركية، وتبشيرهم بحروب جديدة، وسعيهم لتجنيد اللبنانيين من موقع «سيادي» في حربهم على سورية، كما قالت وثائق كبار منظري تيار المحافظين الجدد، وخصوصاً وثيقة «كلين بريك».
– نأى الفاتيكان بنفسه عن التداعيات اللبنانية، خلال السنوات التالية رغم حجم الأحداث الكبرى التي رافقتها، لقناعته بأنه لم يعد ممكناً تدارك الأسوأ. فالفاتيكان منذ زمن البطاركة الذين سبقوا البطريرك صفير والبطريرك بشارة الراعي، كالبطاركة انطوان عريضة وبولس المعوشي، يشجع الانفتاح على العروبة المناهضة للسياسات الأميركية، دون الذوبان بها، ولا يلفته التلحف بعروبة متماهية مع السياسات الأميركية كتعبير عن انتماء للمنطقة وشعوبها وقضاياها. فالعلاقة بين بكركي والسعودية ليست بنظر الفاتيكان تعبيرا عن الاعتدال في سياسات بكركي، بل هي تعبير عن ذروة التطرف بالتموضع في محاور شديدة الخطورة بوجه محاور مناهضة تساندها القوة الأشدّ حيوية بين المسلمين اللبنانيين، التي تنظر لعروبة أخرى كهوية هي العروبة المناهضة للسياسات الأميركية، والتي تنظر من زاوية البوصلة الفلسطينية لموقعها. ولهذا ساند الفاتيكان بكركي في وقوفها ضد الرئيس كميل شمعون عام 1958، وفي المسافة المتوازنة التي أقامتها مع الرئيس جمال عبد الناصر في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وهو ما كانت تسعى للدفع بمثله بين بكركي وسورية، لو سمعت نصائحها.
– مرة ثانية يدخل الفاتيكان على الخط، وهو بوضوح يرى التموضع مع دول الخليج في زمن الصراع مع إيران والتطبيع مع «إسرائيل» وحرب اليمن، مصدر خطر لا يخفيه ما يكتبه ويقوله القريبون من بكركي عن العروبة والانفتاح والاعتدال، فهو تطرف جذري، يشبه ما كان عليه الحال عام 1958 بانضمام الرئيس شمعون الى حلف بغداد «العربي»، وبنظر الفاتيكان اليوم محور وريث لمحور عبد الناصر تقوده إيران وهو محور يتقدم دولياً، وسيخرج رافعاً شارة النصر من مفاوضات فيينا، ويلقي بثقله لبنانياً بحضور وازن للعلاقة مع سورية ولمكانة حزب الله، ويخشى لانعزال بكركي عن هذا المحور ومناصبته العداء أن يتسبب بما لا تحمد عقباه. ولذلك وجد الفاتيكان خطاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تعبيراً عن الخطاب الذي يجب أن يقود السياسة المسيحية، وهو ما ينكر سماعه حرفياً كبار المطارنة اللبنانيين من الفاتيكان، بالدعوة للالتفاف حول الرئيس ميشال عون وتشجيعه على الحوار مع حزب الله وسورية وإيران دون القطيعة مع المحور الآخر بالتأكيد، لأنه يبقى المحور الأقرب للفاتيكان وبكركي، لكن لبنان ومسيحييه لا يتحملون فواتير صراعات الكبار، فلماذا الزج بهم في سياسة العداء والمحاور، في لحظة نوعية تتغير فيها التوازنات وترسم خلالها الخرائط؟