كلمة الرئيس بشار الأسد في ذكرى الجنرال سليماني ألقتها د . بثينة شعبان .
أقامت السفارة الإيرانية بدمشق اليوم حفلاً تأبينياً إحياء للذكرى السنوية الثانية لاستشهاد الفريق قاسم سليماني ورفاقه في مكتبة الأسد الوطنية.
وجاء في كلمة السيد الرئيس بشار الأسد التي ألقتها الدكتورة بثينة شعبان المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية خلال الحفل التأبيني..
في الذكرى الثانية لاستشهاد الفريق قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، ورفيقه في الكفاح ضدّ الإرهاب والطغيان الدولي أبو مهدي المهندس، علينا وبعد الترحّم على روح الشهيدين أن نتوقّف ونتساءل لماذا تقرّر دولة بحجم الولايات المتحدة وقوّتها العسكرية الضاربة أن تستهدف شخصاً يعتبر نفسه جندياً في هذا الصراع ضدّ الإرهاب، وقد كرّس كلّ الإمكانات العسكرية، والقوة البشرية والعتاد الذي تحت إمرته لإلحاق الهزيمة بقوى الإرهاب والتطرّف وسفك الدماء لو لم يشكّل خطراً على خطط وتواجد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والمحليين سواء في سورية ولبنان والعراق واليمن وفي فلسطين المحتلّة؟ المعادلة التي دفعت قادة الولايات المتحدة لارتكاب هذه الجريمة النّكراء بحقّ الشهيد سليماني وزميله المهندس ليست عسكرية بحتة وإنما تتجاوز الحدود الميدانية إلى المفاهيم الفكرية والثقافية والأخلاقية.
لقد فهم الشهيد سليماني جوهر الاستراتيجية المعادية لمحور المقاومة، وعمل من خلال كلّ مهمّة تصدّى لها على تقويض أسس هذه الاستراتيجية حيثما وجدت وبكلّ السبل المتاحة له.. فطالما أنّ هذه الاستراتيجية دعت إلى الفرقة والفتنة بين صفوف وأتباع الأديان والمذاهب المتعدّدة التي تشكّل جوهر الحضارة العربية التاريخي بتنوعها وتعايشها وتثاقفها بسلام وتداخل حضاري، فقد عمل الفريق سليماني ورفيقه في السلاح على إرساء روح وحدة شعوب المقاومة من العراق إلى سورية إلى لبنان وفلسطين واليمن، وطالما أنّ الاستراتيجية الغربية المعادية دوماً للعرب منذ ألف عام قد اعتمدت على شراء ذمم الخونة والعملاء وإغراء أتباعها بالمال ومكاسب الدنيا، فقد عمل الفريق سليماني على غرس روح التضحية والفداء للوطن بين المنضوين تحت قيادته، وضَرَب لهم المثل الأعلى في الزهد في هذه الدنيا والطمع فقط في الشهادة ولقاء الرفيق الأعلى، والعمل الدائم والدؤوب والمخلص لمراكمة الحسنات والجهاد في سبيل الله والأوطان والإنسان دون أن يبتغي جزاء ولا شكوراً من أحد.. فقد كان تواجده في الميادين حيث تظهر قدراته القيادية الفذّة، وليس على شاشات الإعلام.
وطالما أنّ الاستراتيجية المعادية التي تستهدفنا جميعاً قد ركّزت على أتباعها من الحكام والحكومات وعلى التبعية والانصياع للأوامر القادمة من وراء البحار، فقد عمل القائد سليماني على اجتراح استراتيجيته من المكان والزمان وحسَب متطلّبات المعركة، يرشده في ذلك ضمير حيّ ونفس توّاقة لإتمام المهمة أو نيل الشهادة في سبيلها.. ولأنه كان هو نفسه يمثّل كلّ ما يدعو إليه، ولأنه كان يفعل ما يقول ويعيش ما يحاول غرسه في نفوس المقاومين الذين تركوا حياتهم وعوائلهم دفاعاً عن العرض والوطن والدين، ولأنه كان يعتبر نفسه جندياً في هذه المعركة المقدّسة، فيعامل رفاقه بمنطق الأخوّة والمحبّة والتعاطف والتفهّم الذي قلّ نظيره.. شكّل القائد سليماني ورفيقه الشهيد المهندس في المواهب القيادية الفذّة ظاهرة عسكرية وسياسية وثقافية وأخلاقية إسلامية وعربية، فهم الأعداء خطورتها على مشاريعهم الإجرامية، ليس فقط بسبب ما يقوم به هو الآن، ولكن بسبب ما يغرسه في نفوس الشعوب المقاومة من مُثُل تُوَلّد بالضرورة في المستقبل أعداداً لا تُحصى من أمثاله وتشكّل خطراً على مخطّطاتهم الإجرامية ضدّ شعوبنا التي عانت منذ قرون من حروبهم واستعمارهم ونهبهم لثرواتنا وقتلهم الملايين من شعبنا، ومن اغتصابهم فلسطين وإخضاعهم دولنا للحصار والعقوبات، كما أنّ الأعداء توجّسوا من انتشار العدوى التي قد يسببها هذا الأنموذج في الإقليم والعالم.
وإذا ما أعدنا الذاكرة بالاستهدافات التي قامت بها الولايات المتحدة في تاريخها، والتي قام بها ربيبها كيان الاحتلال في منطقتنا، نجد أنّ السبب الأساس وراء هذه الاستهدافات هو الخوف من انتشار الأنموذج الذي يهدّد جوهر هويتهم السياسية أو العسكرية أو الثقافية أو الأخلاقية، أو كلّ هذه معاً.. فمن استهداف مارتن لوثر كنغ إلى أنديرا غاندي وإبادة عائلتها، إلى إبادة ذو الفقار علي بوتو وعائلته، إلى غسان كنفاني وناجي العلي وأبو جهاد وأبو إياد وتشي غيفارا وأليندي وعدد لا يُحصى من الشرفاء والمناضلين الفلسطينيين والعرب والعالميين الذين عملوا برؤية وإخلاص شديدين ضدّ الأهداف الإمبريالية،وضدّ الاحتلال والاستيطان وضدّ استعمار الشعوب والاستهانة بكرامتها ومقدراتها.
أي أنه مقابل العولمة التي تعتمد المادة والمال والربح ونهب الثروات الأولوية القصوى والضرورة الحتمية لاستمرارها وتجبّرها على البشرية ظهرت نواة عولمة أخلاقية ثقافية وتحرّرية لدى هؤلاء القادة الذين رأوا في كرامة الإنسان الهدف الأسمى للعمل البشري، والذين آمنوا بقول الله عزّ وجلّ: «ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم»، وآمنوا أنّ الاختلاف غنى ومصدر ثراء وقوّة للمختلفين في اللون والعرق واللغة والدين والثقافة والمكان، ولكنّ المتحدين في وضع كرامة الإنسان فوق كلّ اعتبار، والعمل بشرف وإخلاص من أجل حياة بشرية أرقى وأسمى لكلّ سكان هذا الكوكب، وأنّ أكرم هؤلاء عند الله أتقاهم. في إطار هذه العولمة الثقافية الأخلاقية لا يمكن شراء البشر والذّمم، وتسقط أهمّ معادلة أرستها الإمبريالية في أذهان البعض بأنّ: “كلّ إنسان له ثمن”، ويصبح الإنسان عصياً ومستحيلاً على المساومة والبيع والشراء لأنّ مبادئه ووطنيته وإيمانه بأنّ الوطن يعلو ولا يعلى عليه تحصّنه ضدّ كلّ محاولات التخوين والجذب لبريق الذهب أو أثمان الفضة والدولار.
هذه الرؤية الساطعة والقلوب النيّرة التي حملها هؤلاء المجاهدون، ونحن اليوم في ذكرى استشهاد قائدين مبدعين من قادة هذا التيار المقاوم للجرائم الامبريالية الفريق سليماني والمهندس، تشكّل أفدح الأخطار على من يستهدف محور الخلاص من الحقبة الامبريالية المتوحّشة، هذا المحور المقاوم بصلابة يمثّل الركيزة الأساسية التي تبنى عليها القوى البشرية المؤهلة والمؤمنة بمُثل وأفكار وقيم تتناقض طرداً مع قيم النهب والحروب الامبريالية التي تستهدفنا جميعاً.. وهنا تكمن الخطورة التي حذت بالولايات المتحدة أن تجنّد مخابراتها ومخابرات عملائها وتستخدم أعقد التكنولوجيا الحربية لترتكب جريمة وحشية بهذا الحجم تعبيراً عن خوفها من امتداد وانتشار هذا الأنموذج الذي يهدّد استراتيجيتهم، المعادية للشعوب العربية ولشعوب العالم كلّه، في الصميم.. فالحقبة الامبريالية مليئة بالنهب والحروب والتجويع والدماء والأوبئة المصنّعة.
في ضوء هذا التحليل من الواجب علينا جميعاً بمكان أن نكون مخلصين لتفاصيل هذا النهج وعاملين على استمراره وخاصّة في إرساء وتطوير العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعراق وسورية ولبنان واليمن وفلسطين لأنّ العمل على تعزيز التواصل والتناغم والتكامل في هذا المحور يشكّل أرضية صلبة تزيد كلّ بلدانه وأبنائه عزّة وقوّة وقدرة على مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية وتعود حكماً بالفائدة والرّخاء على كلّ شعوب هذا المحور، وتشكّل انفراجاً جغرافياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً للجميع، وقد يشكّل الربط السككي والكهربائي بين إيران والعراق وسورية بداية طيبة لربط دول المنطقة بعلاقات مفتوحة تصبّ في خدمة أبنائها ومنعة دولها وازدهار شعوبها، وخاصّة أنه مازالت تهددنا محاولات الأعداء بالسيطرة على الحدود ومنع التواصل بين أبناء شعب ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة وتاريخ واحد ومصير مشترك، وهذا هو بالذات الهدف من وجود قاعدة أمريكية في التنف يلوذ بها الإرهابيون ويتدرّبون ويتسلّلون لقتل جنودنا وأبناء شعبنا؛ فالأعداء يعرفون حجم الخطورة من التواصل بين سورية والعراق، لأنّ هذا التواصل حيويّ لشعوبنا ويساهم مساهمة فعّالة في فكّ الحصار الظالم عن شعبينا ومقدرات بلدينا.
وقالت الدكتورة شعبان: لقد آمن الشهيد سليماني بحتمية انتصار سورية، وكان يكنّ كلّ المحبة والاحترام للسيد الرئيس بشار الأسد ولصموده التاريخيّ في وجه أعتى الحملات والحروب التي واجهتها سورية في تاريخها الحديث، وها هي سورية تنتصر بإذن الله وببسالة جيشها وأبنائها ودعم حلفائها رغم الحصار الظالم المفروض عليها، ولكنّ انتصارها الحقيقيّ يتمثّل في وقفتها العزيزة لحماية قرارها المستقلّ رغم كلّ محاولات القهر والعدوان والطغيان، وما تشديد الحصار على سورية اليوم إلا محاولة تهدف إلى إسقاط هذا النموذج السوريّ الصامد؛ فالأعداء يخشون أيضاً من انتشار عدوى هذا النموذج في المنطقة والعالم. ولكن، وكما أنّ كوبا قد صمدت لمدة خمسين عاماً في وجه حصار أمريكي ظالم، وشكّلت بصمودها جذوة التحرير والعودة إلى الديمقراطية الحقيقية لدول أمريكا اللاتينية، وها نحن نشهد اليوم صمود فنزويلا وعودة بوليفيا وتشيلي وقريباً البرازيل إلى حكومات وطنية مستقلّة، فإنّ سورية ستشكّل جذوة الصمود في الوطن العربي، وستعود الدول العربية عاجلاً أم آجلاً إلى حكم شعوبها التي تصون قرارها المستقلّ وتحافظ على كرامتها واستقلالها ومناهجها التي تعزّز قيمها التاريخية والوطنية دون محاولة استرضاء الآخرين واستجداء قبولهم على حساب هويتها ومكانتها وتاريخها.
وأضافت شعبان: ستشكل سورية التي عمل الشهيد سليماني مجاهداً مدافعاً عن أرضها وشعبها وعَشِقَ ترابها، بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، منارة للمقاومة الصلبة الفذّة التي لا تعرف المهادنة ولا تخشى الأعاصير ومحاولات التخويف والتهويل مهما عتت رياح الحروب والحصار والإجراءات القسرية لأنّ بها شعباً لا يقبل الذلّ والهوان، ولا يخشى في الله لومة لائم. ومهما كان الدرب عسيراً والأيام حالكة، فإنّ الأمور بخواتمها، ولا شكّ أن خاتمة الجهاد والصبر هي الحرية والانتصار على كلّ الظالمين والطامعين بأرضنا وبلداننا وخيراتنا.
إنّ انتصار إرادة الأسرى الفلسطينيين على السّجان الظالم واختراعهم نفق الحرية الذي حفروه بملعقة على مدى عام، وانتصار إرادة الأسرى الذين شنّوا حرب الأمعاء الخاوية وآخرهم الأسير هشام أبو هواش يؤكّد على أن السجين أقوى من السجّان حين يمتلك الإرادة والإيمان، فكيف بالمناضلين الأحرار المؤمنين بأحقّية وأهمية المعركة التي يخوضونها ضدّ الهيمنة والاستعمار ومحاولات الإذلال لشعوبنا.
إذاً نحن نخوض حرباً كبرى بعد الحرب العسكرية؛ حرباً اقتصادية ثقافية أخلاقية، ولن نسمح لدماء الشهداء أن تذهب سدى، بل سوف نستكمل تضحياتهم ونسير على الدروب التي أضاءتها دماؤهم حتى تصل معركتنا إلى منتهاها وذلك بالانتصار الاقتصادي والإقليمي والثقافي والأخلاقي على كلّ قوى الشرّ والعدوان والاحتلال والاستيطان لنبني النموذج الذي يخشون ويخافون، نموذج كرامة الإنسان وحريته معزّزاً مكرّماً في وطنه والعالم.