لماذا وإلى متى
رفعت ابراهيم البدوي | مستشار الرئيس سليم الحص
دخل العام الميلادي الجديد 2022 حيز التنفيذ، فيما العالم يقف على أعتاب متغيرات جيوسياسية إستراتيجية مهمة، ستشكل منطلقاً لبداية أفول إمبراطوريات، وتفكك اتحادات غربية، عملت على عولمة العالم، واستحكمت باقتصاده وسياساته ردحاً من الزمن، في مقابل نشوء تكتلات جديدة، بعد نجاح دول وازنة في استعادة دورها على الساحة الدولية.
على المقلب الآخر، فإن منطقتنا العربية تستقبل العام الجديد، فيما دولها، تعاني انعدام الاستقرار الأمني، وتراجع ملحوظ في مستوى النمو الاقتصادي والمالي والتكنولوجي والطبي والخدماتي، وفساد مستشرٍ في إدارات الدولة والمجتمع، ما انعكس سلباً على المواطن العربي، الذي بات يعاني من قلق بالغ على المستقبل المجهول، خصوصاً في ظل اضمحلال الرؤى وغياب شبه تام، لأي دراسات إستراتيجية عربية لاستشراف القادم، والاستعداد لمواجهة ما يخطط للمنطقة العربية، وبالتالي ما قد يواجه مستقبل أجيالنا.
ان معظم دولنا العربية، تلقي باللائمة بتردي الأوضاع فيها، على دول الغرب، وقدرتها على تنفيذ سياساتها التآمرية، الأمنية والاقتصادية والتكنولوجية، إما بالترغيب وإما بالترهيب، في مقابل ضعف عربي مخز وغياب شبه تام، لخطط استثمار ثروات بلادنا، وقدرات أجيالنا الحائزة على تحصيل علمي متقدم.
في مدينة بنغالور أو عاصمة تكنولوجيا المعلومات في الهند، اشترطت على أبنائها الراغبين بالتحصيل العلمي في جامعات غربية، العودة إلى بنغالور بهدف التدريس الإجباري في جامعاتها، لمدة لا تقل عن عام دراسي كامل، وذلك لضمان حصول طلابها على أحدث تقنيات التطور بالعالم، وللحفاظ على دور بانغالور ومستواها المتقدم، كمصدر رائد للتكنولوجيا، ليس في الهند فحسب بل في العالم، بعدما باتت تعرف باسم، وادي السيليكون في الهند.
ومع غياب الإستراتيجية العربية، لتحسين أداء الدولة تجاه الجامعات العلمية فيها، نرى بأن الطالب العربي المتفوق، يتوجه فور تخرجه نحو أميركا أو دول الغرب، بقصد التحصيل العلمي المتطور، لكنه سرعان ما ينخرط في المجتمع الغربي، ويسعى للحصول على الجنسية فيها، ولا يعود إلى وطنه إلا كزائر أو سائح، من دون أي خطة إستراتيجية تهدف إلى إفادة طلاب بلده العربي من علمه، وهذا سبب في بقاء أجيالنا في حالة من التأخر عن أي تطور.
غياب مراكز الدراسات العربية عن وضع دراسة استشرافية مستقبلية، تكشف عن مكامن الضعف وتعزز عوامل التطور لبلادنا وأجيالنا، أسهم إلى حد بعيد بتآكل قدراتنا، بالاتكال على مراكز دراسات غربية وأميركية، متخصصة في رسم سياسات ومستقبل منطقتنا العربية، والاعتماد عليها كمرشد لا غنى عنه ولا بد منه لمعرفة مستقبل بلادنا.
من جهة أخرى، يؤخذ على معظم الإعلام العربي، الترويج لمقالات وأفكار كبار الكتاب والصحفيين الأميركيين أو الأوروبيين، واعتماد ما يكتبونه كدليل غير قابل للشك أو للنقد، مع العلم بأن معظم الكتاب والصحفيين الأجانب، يتلقون معلوماتهم من دوائر الاستخبارات في بلادهم، ويؤمرون بكتابتها بغرض الترويج لسياسات الغرب، التي لا تصب في مصلحة بلادنا العربية.
الأنكى من ذلك ومع أي مقال أو تحليل أو كتاب، ينشر لهؤلاء الكتاب في صحف أميركية وغربية ذائعة الصيت، نجد أن معظم إعلامنا العربي يهلل بالدعاية، وسرعان ما يقوم بتسليط الضوء، ويقيم الندوات ويستضيف المتخصصين، بغرض تحليل كل جملة واردة في كتاب أو مقال لهؤلاء الكتبة السابحين أصلاً في فلك دوائر أجهزة الاستخبارات الغربية.
هنا يتبادر إلينا السؤال: أين مراكز الدراسات العربية، أين الدراسات العربية التفصيلية التي تكشف أو تستشرف المستقبل والمخاطر المحدقة بنا، أين المستشرفون والمستشرقون العرب، لماذا الاعتماد على مراكز الدراسات الغربية أو الأميركية، لماذا لا نلجأ إلى مفكرينا وإلى طلاب جامعاتنا العرب، وهم الأجدر والأكفأ، بإنجاز دراسات تفيد أوطاننا وأجيالنا؟
المفكر العربي المغربي الدكتور المهدي المنجرة، ومنذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، هو أول من وضع دراسات قيمة وسيناريوهات عدة لمستقبل المنطقة العربية، متوقعاً إما ثورات شعبية رافضة لمذلة الحكام، وإما فرض حلول خارجية بالقوة والارتهان لمشيئة البنك أو الصندوق الدولي، والسيناريو الأخير هو الإصلاح الداخلي، مع تنويه باستبعاد إمكانية البند الثالث، نظراً لنوعية معظم حكام بلادنا السلطوية المرتهنة لمشيئة الغرب.
الدكتور المهدي المنجرة، هو أول من تنبأ باجتياح أميركي غربي للعراق، بهدف القضاء على علماء العراق، وبغرض الاستيلاء على ثروات العراق ودول الجوار الهائلة.
في العام 1991 وضع المهدي المنجرة دراسة مهمة، تنبأ فيها بحرب الحضارات، وبداية ظهور تكتلات واتحادات دولية جديدة، اقتصادية وعسكرية، على حساب أفول الإمبراطورية الأميركية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، لكن على الرغم من الدراسات القيمة للمهدي المنجرة، لم يجر تبني تلك الدراسات والكتب التي قدمها هذا المفكر العربي، مع أن إمبراطور اليابان، قلّد المفكر العربي المهدي المنجرة أعلى وسام ياباني، نظراً لتمتعه بقيمة فكرية استشرافية تخدم البشرية.
في العام 1993 ضج العالم العربي والغربي بصدور كتاب بعنوان صراع الحضارات، للكاتب والمفكر الأميركي صموئيل هاتنغتون، قابله كتاب آخر للمفكر فرانسيس فوكوياما، الذي تحدث عن نهاية التاريخ، ونجد هاتنغتون وفوكوياما، قدما كتابهما بعد صدور كتاب المهدي المنجرة بعامين، واستشهدا بما قدمه الأخير من أفكار نيرة للعالم، وهذا إن دل على شيء، فهو يؤكد بأن العرب غالباً ما يهملون الاستثمار في الفكر العربي، ولا يعتمدون مبدأ الدراسات للمفكرين العرب، متبعين مبدأ «الفرنجي برنجي».
لماذا لا تتبنى دول بلادنا العربية أفكاراً ودراسات المفكرين العرب، لماذا يغيّب أو يُبعد المفكرون العرب عن مراكز القرار؟ فإما أن توجه إليهم تهمة مناهضة الدولة، وإما بتهمة التحريض للانقلاب على رأس الدولة المزروع أصلاً، من قبل دول الغرب الاستعمارية، وبرتبة موظف تابع فاسد ومفسد، وذلك كضمان لاستمرارية تدفق مصالح الغرب، على حساب قيام دولة عربية حقيقية، مكتفية ذاتياً فاعلة سياسياً واقتصادياً، وغير مرتهنة للغرب، وكل ذلك على حساب مستقبل أجيالنا وأوطاننا العربية.
لماذا كتب علينا نحن العرب، انتظار نتائج محادثات أميركا مع روسيا، أو مفاوضات فيينا النووية بين إيران وأوروبا، أو نتائج الميزان التجاري، وسباق التفوق الصناعي والتكنولوجي، بين أميركا والصين، لماذا ينتظر العرب كل هذا، لتحديد ومعرفة مستقبل أوطاننا وشبابنا؟
لماذا لا تعتمد مراكز دراسات عربية تعنى الشروع بوضع دراسات عربية، تخص مستقبل أجيالنا وبلادنا، الاقتصادية والتجارية والمالية والتكنولوجية، ولوضع خطط تكفل صون ثرواتنا الطبيعية، وبتحرير قرارنا الوطني من الهيمنة والسيطرة الغربية؟
لماذا حالنا وحال أجيالنا العربية، في معاناة دائمة، مع الذل والقهر، وإلى متى سنبقى نستجدي الغرب العلم والتطور، لماذا ممنوع علينا تطوير واستثمار قدراتنا الذاتية، للنهوض من كبوة التخلف، وإلى متى ستبقى أجيالنا تتوارث فساد دولنا وارتهان معظم حكامنا؟