أبو ظبي وطلائع عودة العرب إلى دمشق
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
أثارت الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى دمشق الكثير من الأسئلة حول دوافع التحول الأبرز في علاقات العرب مع دمشق، وأحيت الآمال لدى السوريين بقرب خروجهم من النفق المظلم، بعد حرب تجاوزت عقداً كاملاً.
على الرغم من فرض واشنطن على كل الدول التي تدور في مداراتها الانخراط في مشروع الحرب، وخصوصاً قطر وتركيا والسعودية والإمارات، فإن سياسات أبو ظبي تميّزت منذ بدايات الحرب السورية بعدم الذهاب بعيداً في العداء لدمشق، لاعتبارات تتعلَّق بها، وأبقت على خطوط تواصل غير مرئية مع دمشق، ومنعت ظهور الانقسام السوري حول مستقبل سوريا السياسي بين السوريين الذين يعملون فيها، بل أكثر من ذلك، فإنها منعت انتشار العلم الذي تبنته المعارضات السورية المدعومة من واشنطن وبقية القوى الغربية والإقليمية.
انطلقت سياسات أبو ظبي في المنطقة من طموحات واسعة جداً، ومن هواجس مقلقة لها، واستندت هذه الطموحات السياسية الواسعة إلى الدور الأميركي الكبير المُعطى لها، وخصوصاً بعد أن انتقلت واشنطن من الاعتماد على الدوحة في إدارة الحرب على سوريا وتمويلها مع شريكتها أنقرة، من خلال دعم المجموعات الإسلامية المسلحة التي تعود بأصولها إلى تنظيم الإخوان المسلمين، وانتقالها في ما بعد إلى الرياض لقيادة الحرب، إضافة إلى أنقرة، بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر إثر الإنقلاب العسكري، بعد تظاهرات عارمة للمصريين ضد حكمهم في 30 يونيو/حزيران 2013، ثم برز دور أبو ظبي بعد الدخول الروسي المباشر في الحرب السورية دفاعاً عن أمنها القومي، وتبنّي موسكو خيارات دمشق في حربها على الإرهاب، والذهاب نحو تعزيز وجودها في شرق المتوسط، والانطلاق نحو دور أكبر بديل من الولايات المتحدة المنكفئة جزئياً عنها.
عملت أبو ظبي على ملء الدور الإقليمي بعد مجيء الملك سلمان إلى سدة الحكم وسيطرة ولي العهد محمد بن سلمان على مقاليد السلطة في المملكة، فتوسعت طموحاتها أكثر عبر التورط في الحرب على اليمن، وبناء قاعدة عسكرية بحرية في إريتريا، والذهاب بعيداً في إقامة علاقات تحالفية مع “إسرائيل”، والسعي إلى إعادة تشكيل البنية الثقافية للمنطقة بتبني المشروع الإسرائيلي، عبر إيجاد دين إبراهيمي جديد جامع للديانات السماوية الثلاث يتيح للإسرائيليين حالة التقبل والتغلغل في المنطقة.
شكَّلت الهواجس الإماراتية منطلقاً آخر لسياسات أبو ظبي، فقد أدركت من اللحظة الأولى لانطلاق فوضى “الربيع العربي” أنَّ هذه الثورات الحاملة للإخوان المسلمين إلى حكم الدول التي تم إسقاطها، لن تتوقّف عند حدودها، بل ستتعداها إلى داخلها وداخل المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج، ما دفعها إلى اتخاذ سياسات دفاعية، فساهمت مع الرياض في إسقاط حكم الإخوان في مصر، وحصار قطر، الداعم المالي والتسليحي والإعلامي الأول لحركة الإخوان، والعمل على مواجهة طموحات تركيا في سوريا وليبيا وتونس، ما دفعها إلى تمويل “قوات سوريا الديمقراطية” في شمال شرق سوريا، والاندفاع نحو دمشق، في محاولة استباقية لتحقيق المزيد من الطموحات بتوسع نفوذها من جديد، بالعمل على حاجة سوريا لإعادة إعمار بنيتها التحتية المدمرة، والخروج من الحصار الاقتصادي والسياسي، وإعادة الحياة الطبيعية للسوريين.
تأتي حركة أبو ظبي إلى دمشق في سياق متغيرات إقليمية دولية متسارعة، وخصوصاً ما يتعلق بمنطقة غرب آسيا، بعد أن وصلت إلى حد الاختناق، ووصول كلّ الأطراف الإقليمية والدولية إلى قناعة بضرورة إيجاد سياقات جديدة لها، والعمل على تبريد كل الملفات الحارة فيها، وفقاً لواقع ميداني جديد مختلف كلياً عمَّا أُريد لها، وخصوصاً بعد أن استطاع “أنصار الله” في اليمن تحويل الحرب عليهم إلى حرب على قوى التحالف الدولي المعتدية عليهم، وهزيمتهم لها في أغلب المناطق الشمالية في اليمن والوصول إلى مأرب، ما دفع أبو ظبي إلى إعادة حسابات طموحاتها السياسية التي اكتشفت أنها أكبر بكثير من حجم دورها الطبيعي، فانطلقت في اتجاهات متعددة في سباق مع الوقت لإعادة ترتيب موقعها في النظام الإقليمي الذي يسير نحو ولادة جديدة وفقاً لمعادلات القوة فيه، وفي استباق لشريكتها الرياض، التي ما زالت تبحث عن مخارج لأزمتها في اليمن ومنع ارتدادها على طبيعة الحكم السعودي ومنع سقوطه.
جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق كطليعة لبقية دول الخليج التي تعمل بشكل متسارع لتقليل الخسائر الكبيرة جراء الانكفاء الأميركي المستمر، ووصول واشنطن إلى قناعة كاملة بضرورة الدفع نحو التهدئة والإقرار بحاجة المنطقة إلى الاعتراف بقوة المحور الممتد من طهران إلى دمشق وصنعاء، والذي أثبت قدرة كبيرة على منع إسقاطه وتحوله إلى مرحلة تثبيت وقائع جديدة على المناطق الممتدة من مضيق هرمز إلى باب المندب، والذي سيدفع دول الخليج وبقية دول النظام العربي إلى طرق أبواب دمشق تباعاً من بوابة صنعاء وطهران، بعد المصالحة القريبة المرتقبة جداً، والتي بدأت طلائعها مع انسحاب القوات الإماراتية من الحديدة، وبدء رسائل الاعتراف بواقع يمني جديد يقوده اليمنيون بعيداً عن الوصاية والهيمنة، وانتظار انعكاس ذلك على الداخل السوري، الذي ينتظر نهاية الحرب ومبرراتها المانعة للبدء بعملية التغيير الجذري العميق والهادئ.