لبنان .. ومرثية الخراب.
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
ألم يتعب مجتمعنا من تأدية دور الضحية ومن تلقّي الأحكام من قادة ــ وحوش أطلقتهم مرحلة الحرب الأهلية؟
ألن يثور النائمون على زمرة كرّسوا أنفسهم بالزعرنة زعاماتٍ مافياوية، وقد انتهت مدة صلاحيتهم البشرية منذ عقود، وما انفكّوا يُمعنون في تحصين ديمومتهم الوبيلة؟
ألم يحِنْ أوان استرداد السياسة والحكم من هذه العجول الأسطورية التي خلخلت اليقينيات وملأت الرؤوس الفارغة بحتمية عبوديتها المُطلقة للزعيم الطائفي، وراحت تزداد سلطاناً وهَيمَنةً، بينما يزداد القوم عبوديَّةً وعَجْزاً؟
لو اكتفينا بما هو ظاهر وواضح، لتبيّن أنه من العبث توقّع خطوة إلى الأمام تخطوها هذه الشعوب المختبئة في يأسها على رقعة هذا البلد…بل كل هذه الشعوب في منطقة الشرق الأوسط العربية/الإسلامية التي يكاد أن يكون مشتركها الوحيد، أمراضها وإحباطاتها. والحال فإن هذه التسمية التي أطلقها الاستعلاء الغربي على هذه البلاد، لم يقصد بها تحديداً جغرافياً كما يتراءى، بل أرادها تسمية دونية فرضها تفوّق الغرب الحضاري على تخلّف الشرق وإغفاءاته الطويلة منذ كوما الترك التي كبّلته أربعمائة عام، فأورثته الغبار واغتالت في ذاكرته عزّ بغداد وإشراقة الأندلس، وأنسته المتنبي والفارابي وابن فرناس.
الأسوأ أنه تحت مطرقة هذا الانهيار الإنساني العظيم، ظهرت أنماط فكرية مهيمنة، قوامها الجهل المقدّس والتديّن الشكلاني الأجوف في منأى عن حضارة الدين وانفتاحه على المعرفة والرقي. وبموجب ذلك وعلى أساسه برزت إلى العيان هذه “الأشباه ــ دُول” المتغوِّلة على ناسها والغارقة في عبثية العمل على كبح تدحرجها “المكتوب”.
لا مكان للمزيد من الاسى في هذا الشرق. فمتى يأخذ “القدر” مجده ويتصرّف على هواه سواء انتبهت له أم لم تنتبه. الحرية مثلاً، هذه الملكة المُغوية المكتفية بذاتها، ومعها فتنة الديمقراطية وتجلّياتها، لم تكونا يوماً من بين مقوّمات الحياة وموادها الأساس في هذا الجزء الشرق – اوسطي الغارق في بداوة قدرية تشبكه بالعروبة والإسلام. والملاحظ الذي قلما انتبه له الأقوام المنشغلون بأنسابهم، أن هذا المسمى بالوطن (العربي/الإسلامي) لم يعرف على امتداد تاريخه القديم والحديث والمعاصر أيّ صلة، ولو تجريبية، بطبيعة الحرية أو بالممارسة الديمقراطية، وبالتالي فعداوته لهما مفهومة. وهذه حقيقة تاريخية ثابتة يتداولها وَرَثَةُ الغبار، وليست نوعاً من الرأي الذي تجوز مناقشته. فمن أقصى غرب هذا “الوطن”، في نواكشوط موريتانيا، وحتى أبعد نقطة في شرقه، في بوبيان الكويت، وعلى امتداد جميع أشكال الدول المتجاورة بين هذين الحدّين، لم يعرف أي ٌّ من الشعوب المُقيمة والتي يُطلق على فردها، تجاوزاً، لقب المواطن، أدنى نسمة من الحرية السياسية أو الديمقراطية النظامية، بل كانت على الدوام وما تزال نهباً لحكام فرديين متسلّطين يسمون أنفسهم ملوكاً وأمراء ورؤساء وثوّاراً أو ما سوى ذلك مما يوازيه. وعلى امتداد التاريخ، حكمتْ وتحكّمت في مقادير ناس هذه الرقعة على اختلاف منابعهم، “حكومات” فردية مُطلقة السلطان والقرار، الحاكم في كلٍ منها هو ظلّ الله على الأرض، مشيئته هي القانون والقدر، ومخالفته كُفر ينتهي بالمخالف إلى ما وراء الشمس، وفي طليعة ممنوعاته الحرية والديمقراطية.
ولعله من الضرورة العلمية هنا استلال لبنان من هذه الحفرة الهائلة المحشوة بالجثث الحيّة. فهذه الرقعة من الجغرافيا البشرية أُريد لها منذ تشكّلها الرسمي، أن تُدير وجهها للبحر حيث السمك والمغامرة… وتُعطي ظهرها جغرافياً وبشرياً لسلسلة الجبال التي تفصلها عن العمق العربي/الإسلامي. وبحكم طبيعة حياة هذا الشريط الساحلي المركنتيلية العتيقة، وتواصله المبكر عبر البحر مع الغرب الذي ما انفك يطرق أبوابه غازياً أو متاجراً أو مكتشفاً أو باحثاً عن موطئ قدم، اعتاد اللبناني أن يكون أكثر تأثراً بمفاهيم الحرية والديمقراطية الآتيتان إليه من وراء الأفق. ولئن تيسّر لسورية (مثلاً) ــ التي طالما كانت ولبنان، كيانين في بلد واحد ــ أنظمة حكم عقائدية (بعد الاستقلال) قطعت أواصر التبعية مع الغرب ومفاهيمه السياسية، فإن “طبخة” الحكم في لبنان الدولة، تضمّنت في جملة ما تضمّنته، نصوصاً وسلوكيات تضجّ ببهارات الحرية والديمقراطية التي راحت تتغلغل في العقل الجمعي اللبناني، ما أدّى بالشعب ــ الشعوب اللبنانية إلى شيء من التمايز عن المحيط العربي ــ الإسلامي. وهذا ما غذّاه التغريبيون من أدباء وشعراء ومفكرين وأصحاب رؤىً من مختلف المنابت الوطنية والدينية. هذا في حين غرق الآخرون من الجيران في بحار حكامهم المقفلة شبابيكها على أي ريح. من هنا كان سرّ اختلاف لبنان، وربما تميّزه، وكذلك سرعة عطبه. ولذا يتجلّى لنا، لو درسنا تاريخه بتؤدة، بلداً عجيباً مختلفاً، عاش تجربة العودة من الجحيم أكثر من مرة، ولا يبدو أنه تاب عن تكرار التجربة.
لذلك فلا أحد يمكنه كشف أسرار الخوارزميات السياسية التي تتحكم بصيرورة هذا البلد الذي ورد ذكره في التوراة، وما يزال حتى اليوم دولة تحت التشكيل. ربما هناك بُعدٌ فلسفي يشرح طبيعة حقائقه النائمة، كأنها خفية، وجدليات بعض مكوّناته التائهة بين التأويل والوضوح. لذا كان دائماً البلد العربي الوحيد الذي ليس عربياً (!)… ولا هو غير ذلك. ولذلك أيضاً أحبه العرب وكرهوه، وراحوا، بعد استنفاذه، يحاولون وأده لحجب هوائه عن ناسهم، كيلا يستفيق النيام.
والأغرب هم أولئك اللبنانيون المختبئون في جراح صمتهم، الذين يُؤمنون أن لوطنهم جذوراً عميقة في السماء، بينما يعجزون عن تثبيت أقدامهم على الأرض… فيكتبون ويبشرون ويتحمّسون…عبثاً، ويبدون مثل غُرباء يُلوّحون بمناديلهم من نافذة قطار عابر.
وفي انتظاره الفجر الذي اعتاد ألّا يأتي، يواصل بعض هؤلاء اللبنانيين الأكثر صبراً من الصخور، اغتراف الأسى ومواصلة الرهانات على غرب لم يعد له مصلحة فيهم، وعلى عربٍ طاب لهم التبوّل في البئر التي لطالما شربوا منها، ولا بدّ من أن يشربوا بعد، اضطراراً. وهنا، لا جدوى أبداً من تنبيههم إلى فادح خطاياهم بحق هذا اللبنان، لأن الثور لا يشعر بثقل قرنيه. يبقى “المنقذون” المزعومون الذين اجتمعوا ذات ليل في “الطائف”، وقد صَمّوا آذانهم عن مزامير الحقيقة إلى درجة دفعتهم إلى تحريم الموسيقى، فجاء “دستورهم” خالياً من الروح خلوّه من النغم، وقيل إنه وصفة للخراب.
وأيّ خير يُؤمل من دستور يحرّم الموسيقى…!