سوريا والمرحلة الأصعب
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
أثار التصريح الَّذي أطلقه الرئيس الأميركي جو بايدن بحقّ سوريا، بعد الانسحاب المهين من أفغانستان، واعتبارها أكثر خطراً من الأخيرة، تساؤلاً حول ما تخطّط له الإدارة الأميركية لسوريا في المرحلة القادمة، وما تعمل عليه من سياسات تدفع نحو انهيار كلٍّ من لبنان وسوريا.
تتالت الأحداث التي ترسم مسار الأحداث القادمة وفق التصور الأميركي، والتي بدأت مع زيارة رئيس الاستخبارات الأميركية “CIA” وليم بيرنز لـ”تل أبيب”، ولقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، ولَم يتسرب سوى موقف وحيد منه، يتعلق بالعودة إلى الاتفاق النووي.
وجاء الإعلان عن ملتقى بغداد الذي من المفترض أن يعقد في 28 من هذا الشهر، للدول الإقليمية ذات التأثير الكبير في الحرب على سوريا، بدعوة من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وتم فيه استبعاد دمشق من الحضور بعد ضغط أميركي واضح، ما أربك القيادة العراقية بعد وصول صالح الفياض إلى دمشق.
كانت المفاجأة الأكبر تتمثل بوصول رئيس الاستخبارات الإماراتية طحنون بن زايد إلى أنقرة ولقائه الرئيس التركي، رغم العداوة الشديدة بين البلدين، والتي وصلت إلى المواجهات العسكرية غير المباشرة في سوريا وليبيا، وسياسياً في مصر وتونس، على الرغم من محاولات أبو ظبي الانفتاح على دمشق، لمواجهة خطر “الإسلام السياسي” الذي تتبنّاه أنقرة وتدعمه.
لا تخرج محاولات الحراك الأميركيّ في غرب آسيا عن نتائج التحولات الكبيرة في وسط آسيا، فالاستراتيجية الأميركيّة التي تتبنى مواجهة كلّ من الصين وروسيا، تعتمد على منعهما من إنجاز مشروع مبادرة “الحزام والطريق” الصيني، ومنع المشروع الأوراسي من التمدد. ويعتمد المشروعان في نجاحهما على تحييد منطقة غرب آسيا عنهما، وخصوصاً بعد أن خرجت الولايات المتحدة بشكل مُذلّ من أفغانستان، وعدم يقينها من إمكانية إعادة تجربتها الناجحة في فيتنام، التي هُزمت فيها بالقوة الخشنة، ولكنَّها ربحتها بالحرب الناعمة، وأصبحت ضمن القطب الأميركي لمواجهة الصين.
تركّز واشنطن الآن على إمكانيَّة إخراج العراق وسوريا ولبنان واليمن من المجال الحيوي لقوى قارة آسيا الناهضة، والذهاب بعيداً في حروب الجيل الرابع، التي تعتمد بشكل أساسي على تأكّل الدول من الداخل، بفعل العقوبات الشديدة، وبفعل السياسات الاقتصادية الداخلية المتبعة فيها، ما يدفع إلى تغيير المزاج العام للعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين، والقبول بأيِّ حلٍّ سياسيٍ يغيّر المعادلات السياسيّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بما يَصبّ في مصلحة الاستراتيجيّة الأميركيّة.
تدرك الإدارة الأميركيّة أنَّ سحر الشرق الأوسط انتهى، وفق تعبير وليم بيرنز في دراسته التي نشرها في معهد كارنيغي في العام 1919، عندما كان يتولى مسؤوليته قبل توليه إدارة الاستخبارات الأميركية، وأنَّ أية إدارة أميركية لا يمكنها مواجهة العقبات غير المدروسة بعمق في حراكات شعوب هذا المشرق، ولا يمكنها الاستمرار في السياسات الخشنة نفسها التي تعتمد على فائض القوة العسكرية. وفي الوقت نفسه، لا يمكنها ترك هذا الشرق لتملأه القوى الآسيوية الصاعدة، إضافةً إلى القوى الإقليمية الكبرى، وخصوصاً إيران، التي تعتبر الحليف الأول لروسيا والصين، وتركيا التي تستثمر في الهامش الكبير المتاح لها نتيجة صراع الأقطاب.
تأتي محاولة واشنطن لإعادة ترتيب المنطقة قبل أن تعلن خسارتها الخشنة الثانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بعد الهزيمة المدوية لها في أفغانستان. وقد دفعت حليفتها الحكومة العراقية إلى الإعلان عن اجتماع رؤساء الدول الإقليمية في بغداد، والذي يضم كلّاً من طهران وأنقرة والرياض وأبو ظبي وعمَّان والدوحة والقاهرة، وبدعم أميركي لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، قبل الانتخابات العراقية القادمة في شهر تشرين أول/أكتوبر، لتمنحه منجزاً سياسياً يستفيد منه في إعادة استلامه السلطة السياسية، ليؤمن خروجها العسكري القادم، وتبقى للتحكّم فيه بالأدوات السياسية المتغلغلة في كلِّ مفاصل الدولة العراقيّة.
المستهدف الثاني في هذا المؤتمر هما سوريا ولبنان اللذان تم استبعادهما من الدعوة، في محاولةٍ لإغراء إيران وإشراكها في إعادة ترتيب المنطقة، كما نُقل عن اتصال الرئيس الفرنسي ماكرون بالرئيس الإيراني رئيسي، والأمر يتم بمحاولات أميركا لجمع حلفائها الأعداء في ما بينهم، وخصوصاً تركيا والإمارات ومصر والسعودية وقطر، و”إسرائيل” الغائبة عن الاجتماع والحاضرة بتفاصيله، التي تعيش قلقاً عميقاً بعد معركة “سيف القدس” الأخيرة، والَّتي ازدادت قلقاً بعد قرار إيران خرق العقوبات الأميركية الإسرائيلية على لبنان، وإرسال أولى حاملات الوقود ضمن مجموعة الحاملات المتلاحقة، وتهديد السيد حسن نصر الله كلّ من يحاول التصدي لها، واعتبارها جزءاً من لبنان بدءاً من لحظة انطلاقها خارج المياه الإقليمية لإيران.
الاجتماع بطبيعته محدود النتائج، بسبب طبيعة تناقضات المصالح الكبيرة لدول الإقليم، وخصوصاً سوريا المغيبة عنه، والتي ستكون محوراً أساسياً للقاء الذي لا يمكن أن ينجح فيما لا تزال دمشق تعتبر تركيا دولة محتلة للأراضي السورية في الشمال السوري، مع استمرار دعمها المجموعات التكفيرية الإرهابية. وتركيا لا تستطيع التخلي عن احتلالها لأراضٍ سورية لأسباب عقائدية وسياسية، وبسبب مشاكلها الداخلية، ولا تستطيع التخلي عن احتضان المجموعات التكفيرية كورقة قوة لتحقيق أجندات قومية وإمبراطورية تاريخية وعقائدية.
والسبب الآخر للفشل هو الدوافع الحقيقية للإدارة الأميركية لرعاية اجتماع كهذا من الخلف، بحرمان موسكو وبكين من إكمال مشروعيهما الأوراسي ومبادرة “الحزام والطريق” في غرب آسيا، كما أن إيران عقائدياً وسياسياً لا يمكنها أن تتلاقى مع الأهداف الأميركية الإسرائيلية، وخصوصاً بعد أن أنهت الانقسام الداخلي حول إمكانية المراهنة على الغرب عموماً، بخروجها من المحور الآسيوي، وهو ما أكّده وزير خارجيتها أمير عبد اللهيان في أول تغريدة له بعد مصادقة البرلمان على ترشيحه لوزارة الخارجية، بإعلانه أن أولوية سياسته الخارجية ستكون دول الجوار وآسيا.
الصراع سيستمرّ بفعل الاستقطاب بين المشاريع الدولية والإقليمية المتداخلة، والتي لا يمكن الوصول فيها إلى معادلة رابح رابح حتى الآن، بل معادلة رابح خاسر، وواشنطن لن تكون رابحة في المدى القصير إلا في الحروب الناعمة التي تتقلّص مع مرور الزمن، رغم ما تتركه من آثار مدمّرة على دول الإقليم وشعوبه.
الأمر يتطلَّب إرادة السوريين أن يكونوا على مستوى التحدّيات القادمة التي لا يمكن مواجهتها بأدوات ومفاهيم تدفع إلى المزيد من التأكّل الداخلي الذي يصب في الأهداف والمصالح الأميركية الإسرائيلية موضوعياً.
لا خيار أمام السوريين بعد أن تمَّ حسم القرار بالتوجه شرقاً إلا تغيير أنماط تفكيرنا والعمل على بناء الدولة بما ينسجم مع المتغيرات المتسارعة نحو النظام الدولي الجديد ونهاية وهم “نهاية التاريخ” الذي تنبأ به فوكوياما منذ قرابة ربع قرن.
السوريون في الداخل والخارج ينتظرون سياسات مختلفة وحلولاً شاملة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية، رغم السوداوية والكآبة اللتين تسيطران عليهم، فهل من مؤشرات قادمة لذلك؟ هذا ما ينتظره السوريون.