أخلاق المقاومين تُخمد «الّلهيب» مرّتين
ايمان بشير | كاتبة وباحثة لبنانية
لم تكن حادثة شويّا واعتراض قلّةٍ لمجموعةٍ من المقاومين مع راجمة الصواريخ قبل أيام، أثناء عودتهم بعد ردّهم على الغارة الإسرائيليّة، سوى واحدة من سلسلة الاستثمارات الكثيرة ضدّ حزب الله. قبل عامين، ومنذ بدء الحراك الشعبي في لبنان، دأبت الكثير من الوسائل الإعلاميّة على الترويج لحالةٍ من التراجع في الحاضنة الشعبيّة للمقاومة، بمختلف فئاتها. وما غفلت عن أداةٍ إلّا واستخدمتها في محاولتها لإظهار «تململ» من حزب الله في الأوساط الشعبيّة. وفي الحقيقة، لم يكن هنالك إجماع يومًا على المقاومة في لبنان، وهو خلاف عقيم لم يتبدّل يوماً، بدءاً من كتاب التّاريخ.
في شويّا آنذاك، ورغم اغتنام العدو الإسرائيلي الفرصة لتوهين أحد أهمّ عناصر القوّة في المقاومة، أي بيئتها الحاضنة، كما وصفها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وبعدما رُوّج للمشهد كسابقةٍ ستؤدي إلى تراجعٍ في المعنويات، حدث ما هو أكبر من التّوقعات. بُعَيد ساعاتٍ من الحادثة، تواصل عددٌ من الأفراد والجهات من الجنوب والبقاع وحاصبيا، والعِبرة بالأخيرة، مع المقاومة لإبلاغها استعدادهم التكفّل بالتكاليف الماديّة للصواريخ التي أُطلقت، كجزءٍ من ردّ الجميل على تثبيت قواعد الاشتباك الجديدة، وكاعتراض على الواقعة التي حصلت مع المجموعة التي نفذّت العمليّة. وهو أمر ليس مستغرباً من أهالي «بلدة الشهداء»، سيّما وأنّه منها انطلقت عمليّات جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة ضدّ العدو الإسرائيلي، ولكلّ أدهم خنجر سلطان.
بعد إتمام العمليّة من أبعد نقطةٍ عن المنازل السّكنية، حصل مع المقاومين ما لم يكن في الحسبان. شبّ حريقٌ صغير في المكان. قرّر أفراد المجموعة إطفاءها قبل المغادرة، لمعرفتهم أن توسّعها سيُصيب مساحةً واسعةً من الأحراج، وسيُسبّب ضرراً في الثّروة الحرجية وأرزاق النّاس. رغم ما يشكّله ذلك من خطرٍ عليهم في حال تمّ رصدهم من قبل طائرات استطلاع العدو. وهذا الإلتزام هو أحد أهم مميزات حزب الله، مقارنةً مع حركات مقاومة أخرى، رغم الضّرر المحتمل، أثناء القتال والعمليّات العسكرية والاستشهادية والاغتيالات. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو تأجيل عمليّة اغتيال العميل عقل هاشم لوجود أحد أفراد عائلته معه. يؤكّد ضابط العمليّات في المقاومة أبو الفضل، الذي كان متابعاً ميدانياً للحادثة، أنّ التأخير في المغادرة حصل نتيجة التزام المقاومين بالضابطة الشرعيّة في الحفاظ على البيئة، وإصرارهم على إطفاء الحريق. وعلى عكس ما أُشيع، لم يكن سبب عدم استخدام السلاح الذي كان بحوزتهم سرقته من قبل المعترضين، بل تركه المقاومون طوعاً رغم تعرّضهم للضرب، لقناعتهم بعدم استخدامه في الدّاخل ولا حتّى للدّفاع عن النفس. السلاح شرف العسكري، «لكن في مثل هذه المواقف الشرف يكون بالالتزام في التكليف». يشدّد ضابط العمليات أنّ «أصل وجود السلاح هو لحماية أهلنا، فكيف نُشهر سلاحنا بوجههم؟ ولو وقعت دماء حينذاك لكان المشهد مختلفاً، خصوصاً مع وجود اختلاف في التّوجهات السياسيّة بين أبناء البلدة أنفسهم»، مشيراً إلى أنّ القدرة العالية التي تمتّع بها المنفذّون من انضباط وتقديرٍ عالي المسؤولية هي التي أنقذت الموقف، رغم الدهشة التي أصابتهم بسبب ردّ فعل عدّة أفراد مثّلوا الأقليّة، وهو ما ثبت لاحقاً في المواقف التي عمّت البلدة. ورغم التحريض على القتل وتعمّد إظهار وجوه المقاومين، وهو ما يمكن أن يفقد المقاوم وظيفته التي بدأها منذ سنوات طويلة وراكم فيها الخبرات، إلّا أنّ أفراد المجموعة أخذوا المعترضين بالحلم والحكمة. لا يتصرّف المقاوم في حزب الله بإنفعاليّة وعاطفيّة، بل بالتّكليف الذي تجسّد كذلك بانضباطيّة المنفّذين في عدد الصواريخ التي رُميت. وعلى الرّغم من ردّة الفعل الفردية التي حصلت في صيدا بطرد بائعي تين، كردّ فعل على حادثة شويّا، إلا أنّها قياساً بمشهد الأخيرة، كانت مضبوطة وليست مقبولة. وحتى التعاطف مع المظلومين كان استنسابيّاً، ولم يطاول السائق الذي شُتم وضُرب وحُطمّت سيارته أثناء عودته إلى بعلبك.
«كنّا نتمنى أن نُقابل بالأرز» بلهجة جنوبيّة وبسمةٍ لا تغادر وجهه، يقول أبو الفضل، فالبيئة الحاضنة على ارتباطٍ وثيقٍ بالمقاومة وليس ارتباط مصلحة، وفي الحروب تحصل نكسات لكنها لا تغيّر القناعة. وما راكم الصبر والتّحمل والثّبات هو كلام سماحة السيّد الذي، حين خاطب مجموعة عملية الردّ، ذرفوا الدموع، فيما أحدهم تمنّى لو استشهد قبل أن يسمع هذه العبارات من السيّد. «يعزّ حزنك علينا يا سيّد. الابن عادةً ما يكون بارّاً بولده إنّما مع السيّد يكون الأمر متبادلاً».
نفذّت مجموعة المقاومة عمليّة الردّ على أكمل وجه، مع كافّة الاحتياطات اللوجستية والعسكريّة اللازمة. كرّست قاعدة جديدة مع العدو الإسرائيلي قبل تماديه إلى الأحياء السكنيّة. ولم يكن سبب انكشاف المجموعة، كما تردّد، حادث سيارة أو إزاحة الستار عن الراجمة. فمقاومة مثل هذه المقاومة لا يمكن أن تخطئ خطأً من هذا النوع في أيّ عمليّة عسكرية تقوم بها. نجت شويّا يومذاك، بأخلاق المقاومين، من حريق الأحراج ونار الفتنة. وعلى الرّغم من أنّ الأمين العام لحزب الله دائماً ما كان يهدي النّصر لكلّ لبنان، في تحرير 2000، وعدوان 2006، وتحرير الجرود 2017، إلّا أنّ البعض في لبنان لم يتوانَ عن تحريض قوّات اليونفيل بعد عمليّة الرد على «توسيع مهامها ورفع منسوب التقنيات الحديثة والمتطورة لرصد حركة الأسلحة».
في سياق شكره لكلّ من ساند مجموعة المقاومة في شويّا، يكرّر ضابط العمليّات ما قاله شهيدٌ في المقاومة قبل تحرير الجنوب «هذا شعب يستحق أن نُستشهد من أجله»، يستحقّ هذا البذل والدّماء لأنّه لم يخذل المقاومة في أيّ يومٍ من الأيام، ولا في أيّ معركة، وقد كثرت الرسائل التي وصلتنا بأن «اقصفوا من منازلنا»، وبعضهم احتار في ما يقدّم للمقاومة. يؤكّد أبو الفضل أنّ المقاومة لا تبادل البيئة غير الحاضنة إلّا بما تملكه من قيم، وما حصل في شويّا أكبر دليل على ذلك. «نحن أبناء الأرض ويوم يغير العدو الاسرائيلي على أيّ منطقة، مهما كانت طائفة سكانها، سنقوم بواجبنا ولن نسمح له بالتمادي، لأنّ ذلك سيجعل من كلّ نقطةٍ في لبنان هدفًا سهلاً له. هذا العدوّ قد تصدّع، هو في حالة تهاوٍ وانحسار، والمقاومة في حالة سطوعٍ وانتصار».