هل تُشكّل تقارير المنظمات الحقوقية باباً لفرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين؟
أيها اللبنانيون هذه حقوقكم المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان... فأين أنتم منها؟ طريق العودة الى أهداف الأمم المتحدة للتنمية أصبح طويلاً وشائكاً وغير مضمون
الدكتور جاسم عجاقة | خبير اقتصادي ومالي
حق الإنسان في العيش الكريم هو حقٌ مُقدّس نصّت عليه الشرائع السماوية ومُعظم الدساتير وتمّ إقراره في شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة. أول من تحدث عن الهيمنة الإقطاعية للعمال هو آدم سميث (أبو الاقتصاد الحرّ) وذلك عام 1776، فقد رأى التنمية دون أن يتكلم عنها صراحة من خلال فكرة أن الفرد قادر على التصرف بشكل مستقل عن القيود الكنسية وقيود الدولة. وهكذا قدم مفاهيم حديثة لما سيطلق عليه لاحقًا الحرية الاقتصادية والسياسية، وأنشأ نظامًا جديدًا لريادة الأعمال ظهر كبديل للنظام الإقطاعي.
في كتابه الشهير «ثروة الأمم»، اشترط سميث زيادة ثروة الأمة من خلال حرية كل فرد في متابعة مصالحه الخاصة بطريقته الخاصة ووضع موهبته ورأسماله في منافسة مع الآخرين. وقد شدّد على دور الإنتاج كمُحدد أساسي لمستوى معيشة الأمة وإعتبره أمرًا بالغَ الأهميةِ. يقول سميث في كتابه «ثروة الأمم» في الصفحة 11: «بغضّ النظر عن التربة أو المناخ أو حجم الأرض في بلد ما، فإن وفرة موارده أو فقره يعتمد على القوة الإنتاجية لعمله». من هنا نرى ضمنيًا الصلة بين السياسة الاقتصادية والتنمية، حتى لو استخدم آدم سميث مفهومًا يجتزئ مفهوم التنمية وهو مستوى معيشة الأمة. الجدير ذكره أن الإنكليز كانوا يستخدمون تعبير «التقدم ملموس» كما ذكر آدم سميث، في حين أن «جون ستيوارت ميل» قد فضل له تعبير «التقدم الاقتصادي».
يعود الفضل في إدخال كلمة التنمية في اللغة السياسية إلى الرئيس الأميركي هاري ترومان في خطابه الثاني في العام 1949، حيث قال: «ستشْرع الولايات المتحدة في برنامج جديد جريء لإتاحة فوائد التقدم العلمي والتقدم الصناعي لتحسين المناطق المتخلفة وإنمائها». في الواقع، كان هذا الخطاب أشبه باعتراف رسمي بدور السياسة الاقتصادية التي تقوم بها القدرة البشرية ودورها الغالب في التنمية البشرية.
قبل الحرب العالمية الثانية، لم يتم استخدام مصطلح التنمية الاقتصادية في الأدبيات الاقتصادية، فقد استخدم الإنكليز بدلاً من ذلك مصطلح التقدم الملموس – كما أشار آدم سميث – على أمل تقدم إنكلترا نحو البذخ والتحسين. وظهرت النظريات المتعلقة بالتنمية الاقتصادية بعد ذلك التاريخ وتأثرت بشدة بسياق الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فإن معالجة التنمية بالمعنى الحقيقي للكلمة لم تبدأ حتى الخمسينيات من القرن الماضي بعد انتهاء عملية إعادة بناء أوروبا.
في عام 1978، استخدم البنك الدولي كلمة التنمية في تقريره بعنوان «التنمية في العالم»، وأخذ ينشره كل عام، واقتصر نطاق هذا التقرير على الجانب الاقتصادي البحت للتنمية في البدء ولم يأخذ في عين الإعتبار الأبعاد الأخرى. وقد بقي الأمر كذلك حتى عام 1990 حيث فتح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي آفاقًا جديدة للتنمية من خلال ظهور عبارة «التنمية البشرية» التي تصدرت تقريره السنوي بعنوان «التنمية البشرية في العالم». وقد أدى هذا العمل لاحقًا إلى أخذ البنك الدولي في الحسبان أبعادًا أخرى للتنمية دون أن يتجاوز ما يقترحه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
النهج الذي يستخدمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمعالجة قضية التنمية مستوحى إلى حد كبير من عمل «أمارتيا سين» الذي يقول «إن المجاعة لا تنتج فقط من نقص الغذاء، ولكن أيضًا من عدم المساواة الضمنية في آليات توزيع الغذاء». وفي مقالته الشهيرة، يقدم «سين» فكرة «القدرة الملموسة للمواطن» التي هي فكرة ثورية تُستخدم لقياس أداء الحكومات في ما يتعلق بسياساتها التنموية. وقد طرح سؤالا جوهريًا، وهو ينطبق على الحالة اللبنانية: هل الحق شيء يجب توفيره أم أنه ببساطة لا يمكن إزالته؟
وبالتالي هذا المفهوم يربط الحرية الاقتصادية والسياسية بقدرة الشخص على اتخاذ قراره الخاص، مما يفرض حصوله على «وظائف» مثل إمكان الوصول إلى التعليم أو إمكان الوصول إلى الخدمات… إلخ. يرى «سين» أنه فقط من خلال إزالة الحواجز التي تحول دون الوصول إلى هذه الوظائف، يمكن للشخص أن يختار بحرّية، وبالتالي من الضروري أن تضمن الحكومات الحد الأدنى من هذه الوظائف لتوفيرها لمواطنيها.
التنمية مفاهيم لا تنطبق على لبنان
ما قبل سبعينات القرن الماضي، كانت التنمية الاقتصادية تعني مجموعة من التحولات النوعية التي تصاحب النمو المستدام: تطور الهياكل الاقتصادية لبلد مُعين ليُضاف إليها لاحقًا تطور الهياكل الاجتماعية والثقافية للبلد. وتُترّجم هذه التنمية بانخفاض نسبة الأمّية، وتطوير النظام الصحّي، وتعزيز البنى التحتية، والتحضّر، كما يتمّ قياسها من خلال الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد (المؤشّر الأساسي)، ليُضاف إليها لاحقًا مؤشر التنمية البشرية الذي تعود صياغته كما ذكرنا إلى «أمارتيا سين»، ومؤشر الفقر البشري الذي يقيس مستوى حرمان قسم من الشعب من الموارد الإقتصادية.
هذه التنمية التي تعتمد بشكل أساسي على النمو الإقتصادي، لها جوانب سلبية تظهر بالتوازي وعلى رأسها التلوثّ، التصحّر… من هنا ظهر مبدأ «التنمية المستدامة» التي تهدف إلى الحدّ من التداعيات السلبية للنمو الاقتصادي على حساب البيئة والمجتمع مع المحافظة على مبدأ التنمية الاقتصادية بأبعادها المذكورة أعلاه، أو كما عرّفه تقرير الأمم المتحدة في العام 1987 بـ «التنمية التي تُحاكي الحاجات الآنية من دون تقويض قدرة الشعوب المستقبلية على سدّ حاجاتهم».
التنمية المستدامة تحوي على ثلاثة أبعاد: بعدٌ اقتصاديٌ ويحوي على محاربة الفقر وتقليص الاختلالات المناطقية؛ وبعدٌ اجتماعيٌ يحوي على حماية الحقوق الأساسية المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان وتحفيز المساواة بين الرجال والنساء؛ وبعدٌ بيئي يحوي على حماية التنوع البيولوجي وتعزيز الطاقات المتجددة. ويتمّ قياس هذه التنمية من خلال قياس البصمة البيئية– أي قياس الضغط الذي يمارسه الإنسان على الطبيعة – ومن خلال الناتج المحلي الإجمالي الأخضر – أي الناتج المحلّي الإجمالي الناتج من النشاطات التي تأخذ بعين الاعتبار استدامة البيئة والنشاطات التطوعية.
هذه الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة تعتمد على عدد من المبادئ الضمنية هي مبدأ التعاضد أي تعاضد بين أفراد المجتمع وبين الأجيال، ومبدأ الاحتراز الذي ينصّ على الإمتناع عن أي إجراء عندما يكون الضرر الذي يلحق بالبيئة أو صحة الإنسان غير مؤكد (حالة GMOs مثلا)، ومبدأ المشاركة الذي يفرض الأخذ بعين الاعتبار آراء الجميع لكي تكون التنمية مشروعة. وقد تم وضع عدد من الأدوات لتطبيقها أهمها: القوانين، والضرائب، وسوق لشراء حق التلويث (محّدد بالقوانين).
وقد أدخل برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة مفهوم التنمية البشرية وهو يحوي على ثلاثة أبعاد: حياة طويلة وصحيّة، والمعرفة، ومستوى معيشة لائق. هذا النوع من التنمية كما يدل عليه اسمه، يُعنى بالإنسان وبحقوقه من خلال مؤشر العمر المتوقع، ومؤشر التعليم، ومؤشر الدخل القومي.
من كل ما ذكر يبرز التكامل بين هذه الأنواع من التنمية التي دفعت بالأمم المتحدة إلى إطلاق 17 مؤشراً للتنمية المستدامة والتي يمكن اعتبار أنها الأوسع: القضاء على الفقر، القضاء التام على الجوع، الصحة الجيدة والرفاه، التعليم الجيد، المساواة بين الجنسين، المياه النظيفة والنظافة الصحية، طاقة نظيفة وبأسعار معقولة، العمل اللائق ونمو الاقتصاد، الصناعة والابتكار، الحد من أوجه عدم المساواة، مدن ومجتمعات محلية مستدامة، الاستهلاك والانتاج المسؤولين، العمل المناخي، الحياة تحت الماء، الحياة في البر، السلام والعدل، عقد الشراكات لتحقيق الأهداف. ولقد تمّ إدخال هذه المؤشرات ضمن خطّة تمتد إلى العام 2030، على أن تقوم الحكومات في كل دولة بتحسين مؤشراتها الداخلية. لكن هذا الأمر يبقى ضمن إطار التوصيات والضغوطات الديبلوماسية والمالية، وبالتالي نعاود من جديد طرح السؤال الذي طرحه «سين»: هل الحق شيء يجب توفيره أم أنه ببساطة لا يمكن إزالته؟
لا حقوق للإنسان في لبنان
الواقع اللبناني يُشير إلى أن المؤشرات السبعة عشر التي سبق ذكرها هي حالياً في أسوأ حالها في تاريخ لبنان الحديث. فالفقر قد ارتفع بشكل مُخيف خصوصًا الفقر المدقع كما نصّت عليه تقارير البنك الدولي الذي أعطى نسبة فقر تفوق الـ 55% من الشعب اللبناني وأكثر من 23% نسبة الفقر المدقع في العام 2020 بعد أن كانت 30% و8% في العام 2019. كما أن الجوع قد ارتفع هو أيضًا كما نصّ عليه تقرير اليونيسف الذي بيّن إن هنالك 30% من أطفال لبنان ينامون وأمعاؤهم خاوية، كما أن 77% من العائلات اللبنانية لا تستطيع شراء حاجاتها الغذائية. وعلى صعيد الصحّة الجيّدة، فقد أصبحت المستشفيات غير قادرة على تأمين الطبابة للمواطنين بأسعار مقبولة، والأدوية شبه مفقودة نتيجة التهريب، مما دفع العديد من الدول الغربية إلى مساعدة المستشفيات مباشرة من دون المرور بالدولة بسبب فسادها الفاقع المستشري في مؤسساتها الاجتماعية.
أما من جهة التعليم، فإن جائحة كورونا ضربت المستوى التعليمي في لبنان حيث نرى أنه تمّ خفض البرامج التعليمية بنسبة 50% كنتاج طبيعي لحالة الإنترنت وعدم قدرة العائلات على شراء اجهزة كومبيوتر لأولادهم. وعلى صعيد المساواة بين الجنسين، فإنه وبحسب تقارير أممية فإن المتضرّر الأكبر من جائحة كورونا كان العنصر النسائي وهي الحال أيضًا في لبنان. أما في ما يخصّ المياه النظيفة والنظافة الصحية، فالواقع يُشير إلى نقصان مخيف في إمداد المجتمع بالمياه الصالحة للشفة أم للاستعمال المنزلي نتيجة عدم توافر المازوت لضخّ المياه، وهو ما يؤدّي إلى عدم قدرة كثير من العائلات حتى على استعمال المراحيض في بيوتهم!
وعلى صعيد الطاقة النظيفة، فالطاقة بأساسها غير متوافرة بشكل يكفي المواطن ناهيك بالأسعار الخيالية (كهرباء ومحروقات).أمّا العمل اللائق ونمو الاقتصاد، فحدّث ولا حرج حيث إنه ونتيجة الأزمة المتعدّدة الأبعاد التي تضرب لبنان، فقد العديد من العمال وظائفهم. كذلك الأمر بالنسبة للصناعة والابتكار حيث إن مُشكلة المصارف بالإضافة إلى أزمة التمويل جعلت الاستثمار خجولاً على الرغم من انخفاض كلفة الإنتاج، وهذا الأمر من الناحية الاقتصادية يفقد الاقتصاد توازنه ويعريه من كل الحلول المطبقة في مثل هذه الأحوال. وعلى صعيد المساواة، فهي موجودة أفقيًا بين المناطق وعموديًا بين أفراد المجتمع الواحد. وفي ما يخصّ المدن والمجتمعات المحلية المستدامة، فهي غير موجودة أصلاً.
الاستهلاك والانتاج المسؤولان غير موجودين في لبنان نظرًا إلى حجم التلوث وإلى قلّة الخيارات المطروحة، وهو ما يضرب العمل المناخي الذي تردّى بشكل كبير نتيجة تعاقب وتزامن العديد من الأزمات. ويأتي طمر النفايات في البحر والأنهر ليضرب الحياة تحت الماء والحياة في البر. كل هذا في ظل غياب السلام والعدل اللذين هما أساس المجتمع!
إذًا وباختصار، نرى أن كل المؤشرات قد تراجعت بشكل كبير وهو ما يؤدّي إلى استنتاج وحيد ألا وهو: إن المواطن اللبناني لا يمتلك حقوقاً في لبنان! والأصعب هو أن العودة إلى مستويات مقبولة بالمعايير العالمية، تتطلّب الكثير من العمل على صعيد السياسات الحكومة، إلا أن ذلك من دون دعم دولي هو من رابع المستحيلات.
حقوق المواطن والعقوبات الدولية
الأمر الملفت في التقارير التي أصدرها كلٌ من البنك الدولي، اليونيسف، وهيومان رايتس ووتش أن هذه التقارير تَدين بشكل مباشر السلطات اللبنانية. فمثلا استخدام البنك الدولي لعبارة «مُتعمّد» في تقريره، يوحي بأن المنظّمة الاقتصادية تُعطي تأكيدًا اقتصاديًا أن الوضع هو نتاج غياب السياسات الاقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة لليونسف التي أشارت إلى أن 30% من أطفال لبنان ينامون وأمعاؤهم خاوية، هو كإدانة للسلطات اللبنانية في تأمين أبسط حقوق الإنسان المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان. ويأتي تقرير هيومان رايتس ووتش كإدانة للمسؤولين بعلمهم وجود مواد خطرة في المرفأ، وبالتالي وضع حياة بشرية في خطر، وهو ما يُشكّل خرقاً لحقوق الإنسان المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان. وكان وزير الخارجية الفرنسي إيف لو دريان قد أشار في معرض ردّه على سؤال أحد النواب الفرنسيين عن الوضع اللبناني،الى أن المسؤولين اللبنانيين «يتقاعسون في تقديم المساعدة لشعب في خطر» وهو تعبير قانوني موازٍ لقانون فرنسي يُجرم أي شخص لا يُساعد شخصاً آخر في حالة الخطر!
كل هذه المؤشرات تُشير – من حيث التسلسل المنطقي – إلى أن هناك توجّها من قبل عواصم القرار إلى القيام بفرض عقوبات كبيرة على كل مسؤول يدخل في حالة خرق حقوق الإنسان في لبنان، وبالتالي إذا تم تطبيق هذا المنطق والسير بالحفاظ على شرعة حقوق الإنسان، فستحمل الأسابيع أو الأشهر القادمة العديد من المفاجآت على هذا الصعيد.
من هنا، يُمكن الإستنتاج أن جميع ما سبق ذكره يفرض منطقياً – لا فقط وطنياً – على القوى السياسية الاستعجال في تشكيل حكومة تكون أولى أولوياتها المواطن اللبناني في كل خططها وتطلعاتها وإصلاحاتها.
عسى يكون الفرج قريباً!