كتاب الموقع
أموات برتبة أحياء
الدكتورة نازك بدير | كاتبة واكاديمية لبنانية
مرفأ بيروت ليس مجرّد أحواض وسفن ومراس وحمولات ورافعاتٍ وأهراءات وعنابرَ، وهو ليس شبّاك العاصمة على البحر فحسب، بل الشريان بين قلبها والعالم.
هل حدث أن اغُتيل القلب، واستمرّ النّبض؟ على الرّغم من مرور عام على تفجير المرفأ الذي ذهب ضحيّته أكثر من مئتي شهيد، وآلاف الجرحى، وتضرُّر العديد من الأحياء السكنيّة، لا تزال المتاجرة بدماء الضّحايا مستمرّة، وما من مذنب تمّت محاسبته.
بعد الراّبع من آب 2020 تغيّر وجه العاصمة. ولن نخوض البحث في الأضرار العمرانيّة- وإن طاولت آثار الدّمار العديد من المباني التراثيّة- إنّما نقصد الحداد الذي يلفّ غالبيّة الوجوه بعد أن فقد الكثيرون القدرة على استئناف الحياة؛ البعض خسر أحبّـته، والبعض الآخر تهدّم منزله حيث تتوارى ذكرياته تحت كلّ حجر، وبين الشّقوق. مَن يعيد هذه الذّكريات المحروقة إلى أصحابها؟ ثمّة من كُتِب عليه البقاء حيًّا وسط هذا الدّمار ليعيش كلّ يوم 4 آب في صور الضّحايا على الجدران، ومن وراء نافذة مشلّعة في حيّ لا تزال بعض أبوابه مخلّعة.
ذلك التّاريخ حفر ندوبًا في الجباه وعلى الوجنات ستبقى غائرة، ويبدو من الصّعب محوها. لعلّ الضّحيّة الأولى والأخيرة، على اختلاف الأزمات وتنوّعها، هو المواطن الذي يشتدّ الحبل حول عنقه أكثر فأكثر نتيجة منظومة الفساد. لم تعد معركته في سبيل حريّة، أو المطالبة بخدمات أفضل، إنّما بات يصارع للبقاء يومًا إضافيًّا قبيل الإعدام!
يمكن القول، النّاجون من تفجير الرابع من آب يتعرّضون إلى ما يشبه محاولة إعدامِ كرامتهم من طريق الإذلال اليوميّ. أن تكون ميتًا لا يعني بالضرّورة أن تكون صورة معلّقة على جدار. ثمّة أحياء برتبة أموات، انتُزِع منهم حُبّ الحياة، والرّغبة في النّضال، والقدرة على الضّحك، والأمل بالمستقبل، والثّقة بالدّولة، والشّعور بالأمان. أجساد تتحرّك في الأزقّة بحثًا عن قوت يوم ضائع.
الهزّاتُ الارتداديّة لانفجار المرفأ لا تزال تتردّد في الدّاخل اللبناني في ظّل الفراغ الحكومي. يلفّ الرّماد الوجوه، تتكسّر الصّور في عيون العابرين. وحده صراخ الضّحايا يسدّ فراغ المدينة.