تدمير مرفأ بيروت والصندوق المغلق
غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
ليس مصادفة أن يغيب عن النقاش السياسي والتحقيق القضائي أي كلام عن احتمال دور صهيوني ميداني مباشر أو من الخلف في عملية تدمير مرفأ بيروت ولدى الدولة العبرية وشركائها العسكريين والأمنيين في المنطقة والعالم المصلحة الرئيسية في شطب بيروت عن حركة الملاحة البحرية والشحن والترانزيت في حوض المتوسط، كما لديهم القدرات التقنية والعملية وشبكات العملاء والجواسيس في مسرح الجريمة، وهذا هو الاستهلال الطبيعي لأي تحقيق جدي فوق متاهة التفاصيل والجزئيات التي يدبّرها المجرمون لتضليل التحقيق وإبعاده عن بصماتهم وقرائن تورطهم. ويبدو أن التحقيقات والنقاشات اللبنانية باتت، بكل أسف، في أسر هذه المتاهة من اللحظة الأولى حتى اليوم.
أولا: نسارع إلى التأكيد على ضرورة كشف أي تقصير أو إهمال لبناني إداري أو أمني كنقطة انطلاق حاسمة. وهذا ما يستوجب تدقيقا شاملا أمنيا وإداريا في جميع حلقات القرار والإدارة والمتابعة ذات الصلة دون أي استثناء أو استنساب أو محاباة، ولكن ما يثير الاهتمام فعلا، هو أن الأسئلة الكبرى والمهمة غُيبّت عن التحقيق، والنقاش تحت ستار كثيف من الضجيج والعويل، وفي ذلك ما يستكمل الجريمة بتوظيفها في المزيد من محفّزات تمزيق البلد بعشوائية اتهامات وشكوك، تفوح منها روائح كريهة، وتظهر ظلال بصمات مريبة، تستكمل تدمير المرفأ بخراب لبناني أعمّ وأدهى.
جاءت الكارثة في توقيتها على مسار انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، فزاد الاختناق حدّة وفداحة، وتوسعت دوائر الخسارة والخراب في بنية اقتصادية ومالية منهارة أصلا، ومن الغباء والبلاهة أن يَغيب عن أي عقل حصيف، أمام نسيج هذا المشهد النافر، أي كلام عن الشبهة الصهيونية وقرائنها الغنية عن البيان والإثبات، وبعيدا عن علك الاستسهال السخيف والنفي المستعجل لشبهات تقع فعليا في صدارة الظن الطبيعي والمنطقي لألف اعتبار وسبب.
ثانيا: طُرحت في معالجات صحافية مهنية أسئلة ما تزال معلقة، ويثير الانتباه أن يبتعد التحقيق اللبناني في الجريمة عن معطيات جديرة بالمتابعة، بل ينبغي تقصّيها بالتفصيل. وقد استوقفنا في هذا المجال أمران خطيران:
حتى الساعة لم نقرأ أي معلومات رسمية عن مصادر التحقيق بشأن تاريخ وصول شحنة نيترات الأمونيا والجهة التي كانت خلف استجلابها أو إرسالها إلى بيروت. وما يزال مغفلا لغز الشحن البحري المتعرّج الذي بلغ بيروت بعد سنوات من التيه والضياع غير المفهوم وغير القابل للتصديق، وهو أمر من نسيج الالتباسات المصنّعة والمدبّرة لطمس القرائن في الجرائم الكبرى. وما وراء الأكمة تدبير متقن لصدفة مدبّرة في سياق جريمة محكمة، تحاط بحبكات استخباراتية وبوليسية عمدا للتمويه والتضليل.
تمّت تعمية غير بريئة وغير مفهومة على الحركة الجوية ومدارات الأقمار الصناعية في المنطقة في توقيت تفجير المرفأ، وهذا ركن رئيسي في التحقيق الموضوعي وإعادة تجميع الوقائع ورسم السياقات والفرضيات الواقعية للجريمة، وهو من بديهيات التحقيق في الجرائم العادية، فكيف في جريمة كبرى استهدفت لبنان بلدا وشعبا واقتصادا ودورا اقليميا ودوليا من خلال شطب مرفأ بيروت العريق وموقعه الهام في حركة الملاحة الإقليمية والعالمية، وهو عمل سيمتد تأثيره لسنوات قادمة، وثمّة من يعمل في المنطقة لاستغلالها، وتكريس بدائل، واكتساب مزايا بعد تغييب أهم الموانئ وأعرقها في حوض المتوسط، وفي ذلك ما يكفي للاشتباه والاتهام والظنّ الجنائي.
ثالثا: إن انقياد السلطات اللبنانية في مسارات التحقيق والمتابعة التي رسمتها الجهات الدولية غير المنزّهة عن التورّط في الجريمة وأهدافها البعيدة والقريبة، هو أخطر مظاهر الانخلاع الوطني وارتهان المؤسسات الحكومية لاستباحة ركائز سيادية، يتقدّمها القضاء بعلاقات وتأثيرات خارجية معادية، وحيث يتلاقى الاستهداف الأميركي الصهيوني ويندمج بمستوياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية.
ينبغي على القوى الحية في المجتمع اللبناني ادراك حقيقة أن الحقيقة الكاملة تستدعي شجاعة التقصّي والتدقيق والتمسّك بالحقّ السيادي ورفض التسليم بأي مرجعية غير وطنية. وما نعرفه جيدا أن حركة النفوذ والمصالح الأميركية الغربية، والفرنسية خصوصا، تتصيّد أيّ شاردة أو واردة في الشرق لاستنزاف المقاومة والنيل من هيبتها وحصانتها ومصداقيتها، وضرب الثقة الشعبية بها. ولا ننزه أحدا من خصوم المقاومة عن توسّل أحطّ السبل وأقبحها في تصيّد الفرص المتاحة للنيل منها. وجميعهم يلتمسون في جريمة المرفأ موسما محمّلا بالتباسات قابلة للاستغلال والاستثمار، الذي ما زال مستمرا في طوفان الغمز واللمز والإيحاء المستبطن داخل حشد من المنتجات الإعلامية التي طفت على حواشي الفجيعة.