شرق الفرات السوري .. الدويلة الموالية لواشنطن
خليل نصرالله | صحافي متخصص بالشؤون الإقليمية
عام 2014 تمدد تنظيم داعش الإرهابي باتجاهات عدة في سورية. سيطر التنظيم على قرابة 60 % من مساحة البلاد، وانتشر عند الحدود مع تركيا، حيث متنفسه نحو العالم، تجارة بالنفط والآثار ومعبرًا لمسلحيه في كلا الاتجاهين.
في بداية النصف الثاني من ذاك العام، حاصر التنظيم مدينة عين عرب (كوباني) عند الحدود مع تركيا. وتزامنًا مع الحصار الذي امتد لأشهر، حاول التنظيم السيطرة على مدينة الحسكة. يومها فتحت دمشق مخازنها هناك لقوات الدفاع الوطني ووحدات حماية الشعب الكردي، ومدت الدول الموالية لدمشق الفصيل الكردي بالسلاح والمؤن والذخائر. وفعلًا نحج الجميع بوقف تقدم التنظيم الإرهابي ومنعه من الوصول إلى مدينة الحسكة.
يومها، أعلن الأميركيون تشكيل التحالف الدولي من أكثر من ثمانين دولة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، رغم إعلانهم على لسان جون كيري، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أن هزيمة التنظيم تحتاج إلى عقود من الزمن. كان واضحًا أن الأميركيين انشأوا التحالف بهدف وضع قدم داخل الأراضي السورية، وتشكيل جيوش من الجماعات المسلحة الموالية لهم.
الاختبار الأول، بدأ في بداية عام 2015 عندما بدأ التحالف تقديم دعم جوي لوحدات حماية الشعب الكردي بهدف فك الحصار عن مدينة كوباني. رُصد يومها وجود خبراء ومستشارين أميركيين يرافقون عناصر وحدات حماية الشعب. يومها فتح الاميركيون بالتنسيق مع تركيا معبرًا لنقل مسلحين من البشمركة من شمال العراق الى كوباني لاسناد وحدات حماية الشعب. ونجح الأمر وبدأت تتبين نواة ما يريد الاميركيون تنفيذه.
بعد معركة كوباني بدأت تتشكل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي عبارة عن تشكيلات مسلحة كردية وعربية من العشائر، وقوات النخبة التي كانت تتبع أحمد الجربا المقرب من الرياض.
بدات قسد تتمدد شيئًا فشيئًا في الميدان بدعم اميركي، وتتقارب مع واشنطن أكثر فأكثر، وتبتعد عن دمشق، وتنادي بالحكم الذاتي كمقدمة للانفصال عن دمشق.
عام 2017 وبالتوازي مع تقدم الجيش السوري والحلفاء في البادية، عمد الاميركيون الى دعم عملية عسكرية لقسد شرق الفرات، فتقدمت الأخيرة بالتوازي مع تقدم سوريا وحلفائها، وسيطرت على شرق الفرات كاملة.
عام 2018، قرر الرئيس الأميركي سحب قوات بلاده من سوريا. خطوة فاجأت قوات قسد ومجلسها السياسي، ما دفعها الى التواصل مع الروس لفتح حوار مع دمشق. حوار لم يدم طويلًا بسبب تراجع واشنطن عن سحب القوات، بعد السماح لتركيا بالسيطرة على شريط حدودي بعمق 30 كيلومترًا.
احداث 2018 بينت أن قسد تعمل وفق المصلحة الاميركية، فهي طرحت حلولًا “خدماتية” على دمشق، أي عودة الدولة خدماتيًّا، فيما الوجود العسكري والسياسي يبقى بيد قسد ومجلسها السياسي. وهو ما رفضته دمشق جملة وتفصيلًا.
مع دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، بدأت قسد تمارس حصارًا ضد دمشق، بحجة خوفها من عقوبات أميركية، الامر الذي يبين أيضًا حجم التبعية لواشنطن.
وليطمئِن الاميركيون “الحليف” الانفصالي نظموا لأفراد من مجلسه السياسي زيارات إلى واشنطن، واستُقبلوا في فرنسا، ودول عربية كمصر.
مؤخرًا، وبحسب المعلومات، وبعد تسلم إدارة بايدن الحكم في واشنطن، عملت الإدارة الأميركية على ترطيب الأجواء بين أنقرة وقسد، بما يتناسب مع مصالحها، فهي تهيئ أرضية للمشاغبة ضد دمشق وحلفائها، خاصة مع التحولات التي تجري في المنطقة.
مؤخرًا أيضًا، لم يستبعد قائد القيادة المركزية الوسطى في الجيش الأميركي اشتباكًا عسكريًا بين قسد والجيش السوري، ملمحًا إلى دعم اميركي لقسد، ومستنبطًا أن اشتباكًا كهذا يمكن لقسد أن تصمد فيه وتمنع دمشق من تحقيق أهدافها، وملمحًا أيضًا إلى تجهيز عسكري وازن قدمته واشنطن لقوات قسد.
بالتوازي مع هذه التصريحات، تؤكد المعطيات أن الأميركيين يتحكمون بكل مفاصل “الدويلة” في شرق الفرات، فهم من يشرفون على بيع النفط السوري المسروق عبر شمال العراق، ولحساب شركات أميركية، كما يسهلون لرجال أعمال إسرائيليين الاستثمار في هذا المجال، كذلك يشرفون على منع وصول محصولات زراعية، لا سيما القمح، إلى دمشق، والعمل على بيعه للدولة السورية بأسعار عالية.
كذلك إن التواجد الاميركي في شرق سورية يحقق لواشنطن مصالح استراتيجية، ويعتبر دعم قسد جزءًا من عدة العمل الأميركية لتحقيق تلك المصالح الاستراتيجية.
الاميركيون لا يخفون دعمهم المطلق للتنظيم الميلشياوي في شرق سورية، بل وحمايته، وهم يتعاطون مع قوات سورية الديمقراطية كقوات تعمل تحت إدارتهم، أي قوات عميلة، وهو ما يمكن استنتاجه من تصريح المتحدث باسم قوات التحالف ضد داعش واين ماروتو، الذي قال في معرض تعليقه على تقديم دعم جوي لقسد في الحسكة ضد مجموعة من داعش: التحالف يملك حق الدفاع عن القوات الموالية له. في إشارة إلى قوات سورية الديمقراطية.
في المحصلة، صار لواشنطن دويلة في شرق سورية، تتشكل من مجموعة من الذين ارتضوا الاستعمار على مصالح بلدهم. هذه الدويلة يبقى مصيرها معلقًا بالوجود الاميركي، الذي تشير المعطيات كافة إلى أنه على شفير التراجع والانكفاء، خاصة مع بدء تلقيه ضربات في كل من سوريا والعراق.