تحليلات و ابحاثكتاب الموقع

عندما تحاضر أميركا في ديمقراطية انتخابات الشعوب!

تقوم عملية مصادرة الإرادة الانتخابية للمواطنين الأميركيين على مفهوم اصطُلِح على تسميته أميركياً بـ"Voter Suppression"، أي "قمع المصوّتين".

لا تفوت واشنطن فرصة الحكم على نزاهة انتخابات الشعوب والدول حول العالم وشرعيتها، وخصوصاً تلك التي تسعى للإطاحة بأنظمتها المستقلة في قرارها السياسي والاقتصادي عن الهيمنة الأميركية.

في حاضرنا، لم يعد باستطاعة الأميركيين ممارسة لعبة قلب أنظمة الحكم المنتخبة، كما كانت تفعل في السابق – حالة حكومة محمد مصدّق الإيرانية مثالاً – من دون ممهّدات تبدأ بمحاولة نزع الشرعية عنها، من خلال رفض الاعتراف بشرعية الانتخابات التي تنظَّم ونزاهتها، وصولاً إلى إقرارها بأن التيارات المعارضة هي التي تمثّل الشرعية المزعومة، ودعمها وتمويلها لكي تحسّن ظروف سيطرتها على الحكم.

أصدرت الولايات المتحدة الأميركية، يوم الأربعاء الماضي، بياناً مشتركاً مع كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، استبقت فيه إجراء انتخابات الرئاسة السورية، واصفة إياها بـ”غير الحُرة وغير النزيهة”. طبعاً، هي ليست المرة الأولى التي تنصّب فيها أميركا نفسها مقرّراً وقاضياً للحكم على الانتخابات التي تُجرى في سوريا أو فنزويلا أو إيران أو غيرها من الدول التي تقاوم الهيمنة الأميركية.

تستعمل واشنطن ذريعة “مصادرة إرادة الشعوب” عند التصويب على شرعية إجراء الانتخابات وقوانينها الناظمة في الدول السالفة الذكر، لكن القليلين يعرفون أن أميركا، “القاضي” هنا، هي نفسها التي تصادر إرادة شعبها قبيل إجراء انتخاباتها كل عامين في انتخابات الكونغرس النصفية، وفي الانتخابات العامة كل أربعة أعوام، وأن هذه العملية تحصل منذ قرنين وثلاثة عقود!

تقوم عملية مصادرة الإرادة الانتخابية للمواطنين الأميركيين على مفهوم اصطُلِح على تسميته أميركياً بـ”Voter Suppression”، أي “قمع المصوّتين”، من خلال منعهم من إيصال من يرغبون في انتخابه إلى المنصب. وتُستَعمَل في سبيل تحقيق هذا الهدف أداة خطيرة تُسمى أيضاً في العرف الأميركي “Redistricting”، أي “إعادة صياغة حدود الدوائر الانتخابية”.

عمر هذه العملية من عمر “التجربة الديمقراطية” الأميركية، أي بعد إعلان الاستقلال، وعشية التحضير لأول انتخابات كونغرس في العام 1789، إذ قام مناهضو الفيدرالية في ولاية فيرجينيا في العام 1788 بإعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية في الولاية من أجل إقصاء توماس جيفرسون من مجلس النواب الأميركي.

بعدها بسنوات، توسّع اعتماد هذه الطريقة بين أنصار الفيدرالية ورافضيها في أكثر من ولاية، لكن العام 1812 شهد الإعلان رسمياً في الصحافة الأميركية عن اسم خاص بهذه العملية، هو “Gerrymandering”، عندما نشرت صحيفة “بوسطن” في 26 آذار/مارس 1812 صورة لدائرة انتخابية في ولاية ماساتشوستس التي كان يحكمها إلبريدج جيري، عن الحزب الديمقراطي الجمهوري، تظهر فيها حدود الدوائر الانتخابية لمقاطعة جنوب إيسكس على شكل حيوان السلمندر (انظر الصورة أدناه)، فجرى أخذ اسم عائلة الحاكم الذي صادق على إعادة رسم حدود الدوائر الانتخابية (Gerry)، وكلمة (mander) من السلمندر، ثم جُمِعا معاً للحصول على مصطلح “Gerrymander”.

ظلت النخبة السياسية الأميركية تعتمد هذا المفهوم على مدى قرنين من الزمن، ولا تزال تعتمده حتى الآن. وقد مارسه كلا الحزبين المهيمنَين حالياً، الجمهوري والديمقراطي.

للرئيس الأميركي الجمهوري الأسبق رونالد ريغان خطاب شهير في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1987، تحدّث فيه عن استعمال الديمقراطيين “الجيريمندر” في ولاية كاليفورنيا، للفوز بأغلبية مقاعد الولاية في مجلس النواب، قائلاً: “الحقيقة هي أن الجيرمندرية أصبحت فضيحة وطنية. لقد قامت المجالس التشريعية للولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون بتزوير العملية الانتخابية، بحيث لا يمكن سماع إرادة الشعب”، لكن الديمقراطيين بعد العام 2010 كانوا ضحية لاستعمال الجمهوريين سلاح “الجيريمندر” بشكل ممنهج ومتطوّر.

كما هو معلوم، يَصدُر الإحصاء الرسمي الشامل للسكان في الولايات المتحدة مع بداية كل عقد من الزمن، وهو يحتوي معلومات ضخمة ومفصّلة عن كل السكان طبقياً وجندرياً واجتماعياً وعرقياً.

بحسب خبراء إحصائيين أميركيين متخصّصين في الانتخابات الأميركية، أدلوا بشهاداتهم في محاكم فيدرالية، وفي فيلم وثائقي صدر العام الماضي، قام حكّام ولايات ومشرّعون جمهوريون في مجالس ولايات باستخدام برمجيات وخوارزميات خاصة وُضِعَت فيها معلومات الإحصاء السكاني للعام 2010. وقامت هذا البرمجيات برسم أنسب حدود لخرائط الدوائر الانتخابية في ولاياتهم، بحيث تعود بالفائدة على مرشحي حزبهم في انتخابات الكونغرس للأعوام 2012 و2014 و2016.

بهذه الطريقة، ضَمِن الحزب الجمهوري إعاقة الكتل الانتخابية ذات التوجّه الليبرالي (تصوت للديمقراطيين) عن إيصال مرشحيها إلى المناصب على مستوى الولايات والكونغرس الفيدرالي

بين العامين 2014 و2019، شهدت مدينة فلينت في ولاية ميشيغن فضيحة مياه الشرب الملوثة بالرصاص، التي أدّت إلى وفاة 12 طفلاً ومعاناة المئات من الأطفال مشاكل صحّية وعقلية.

وقد تبيّن أن الأزمة الصحية – الفضيحة تسبّب بها حاكم ولاية ميشيغن الجمهوري ريك سنايدر والمجلس التشريعي للولاية، بالشراكة مع إحدى كبريات الشركات التي ساهمت في توفير الأدوات اللازمة لمكتب حاكم الولاية، لرسم خريطة الدوائر الانتخابية بطريقة تبقيه وأعضاء المجلس التشريعي للولاية (من الجمهوريين) في السلطة، مقابل إصدار تشريعات على مستوى الولاية تعود بمكاسب وأرباح على مصالحها التجارية.

قاد أفراد من المجتمع الأهلي في ميشيغن معارك رأي عام لإسقاط سنايدر والمشرّعين الجمهوريين على وقع تفاقم قضية تلوث المياه في مدينة فلينت، لكنهم فشلوا في مهمّتهم، لأن الحزب الجمهوري كان قد رسم حدود الدوائر الانتخابية، بحيث يبقى ممثّلوه في السلطة لعقد من الزمن.

في ظل هذه الحصانة التي تحول دون إسقاطهم انتخابياً، لجأ المجتمع المدني إلى القضاء، فرفع دعاوى أمام المحكمة الفيدرالية تطالب بسحب صلاحية رسم حدود الدوائر الانتخابية من مجلس ولاية ميشيغن وإعطائها للجنة مستقلة منتخَبة من سكان الولاية، لكنّ المحكمة رفضت البت بالدعوى.

هذه القضية حفّزت نشطاء في ولايات أخرى، مثل بنسلفانيا وويسكنسون ومينيسوتا ونورث كارولاينا وغيرها، للجوء إلى القضاء لنقل صلاحية رسم خرائط الدوائر الانتخابية إلى لجان مستقلة، وبعضهم نجح في ذلك، بالاستناد إلى الرأي العام المحلي الضاغط.

بعد أيام على ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، صرّح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قائلاً إنّ “النظام الانتخابي الأميركي فاسد”.

طبعاً، كان ترامب ينطلق من غضبه بسبب النتيجة التي حرمته من الحصول على ولاية ثانية، لكن في حديثه عن فساد النظام الانتخابي الكثير من الحقائق، فقضية “الجيريمندر” هي أحد أوجه الفساد التي تسبق العملية الانتخابية التي تُصادَر بموجبها إرادة كتل تصويتية كبيرة، لكن حتى على مستوى المال السياسي الذي يُنفَق لتمويل الحملات الانتخابية في كل الانتخابات (الرئاسية، الكونغرس النصفية، المجالس المحلية، حكّام الولايات)، يتّضح للباحث أنّ مصالح الشركات والكارتيلات والرأسماليين هي التي توصل بأموالها نواباً وأعضاء مجلس شيوخ ومجالس تشريعية على مستوى الولايات، وحتى رؤساء، إلى السلطة.

أمام هذه الحقائق المرتبطة بفساد ديمقراطية الانتخابات الأميركية وزيفها، يصبح تقمّص واشنطن دور الحَكَم والقاضي المقرِّر بخصوص انتخابات الشعوب والدول أمراً مضحكاً ومثيراً للاستهجان.

في كل مرّة يخرج وزير خارجية أو أي مسؤول أميركي ليحاضر في التجارب الديمقراطية والنزاهة ومصادرة إرادة الشعوب، تنبغي مواجهته بهذه الحقائق التي أقل ما يقال فيها إنّها من تجلّيات فساد النظام الرأسمالي الأميركي ونفاقه.

علي مراد

كاتب وباحث لبناني

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى