معركة غزة.. الحرب وفن القيادة
سمير الحسن | كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية
إعتاد العدو الإسرائيلي أسلوب الضربات الخاطفة نظراً لتفوقه الجوي حيث يمتلك أهم أسطول طائرات حربية في الشرق الأوسط من طراز “اف 35″، و”اف 15” و”أف 16″، بالإضافة إلى اهم طائرات التجسس والمروحيات ولا سيما الأباتشي. يمتلك الجيش الإسرائيلي إمكانات كبيرة، لطالما أعطته أفضلية عسكرية في السيطرة جواً منذ نهاية الستينيات الماضية، ففي حرب العام 1967، شنّت الطائرات الإسرائيلية هجوماً مباغتاً على مطارات الجيش المصري، وفي غضون 60 دقيقة تم تدمير 400 طائرة، كما كان لدى الجيش الاسرائيلي تفوق بري حيث يكلّف الجندي الإسرائيلي أكثر من ثلاثين ألف دولار سنويا تدريباً وتأهيلاً، بينما لا يكلف الجندي العربي إلا نسبة ضئيلة جداً من هذا المبلغ. من خلال قوتها البرية، عملت القوات الإسرائيلية، بالتنسيق مع سلاح الجو، على تحقيق إنجازات عديدة، بينها مهاجمة الجبهة السورية سنة 1967 بعد تقدمها على الجبهة المصرية حيث توغلت آلاف الدبابات في عمق الأراضي السورية والأردنية. كما تميزت القوات الإسرائيلية بالإنزالات الجوية الخاطفة، وكان ذلك واضحاً إبان إجتياح لبنان في صيف العام 1982. لكن ما حدث في حرب تموز/ يوليو 2006، شكّل تحولاً إستراتيجياً عندما نجحت المقاومة في إجهاض مفاعيل القوة لدى إسرائيل عبر تطوير أساليب القتال، من المنظومة الصاروخية وتدرج المديات والأهداف حتى آخر لحظة من دون المس بقدرة التحكم والسيطرة والقرار.. وصولاً إلى المعركة الميدانية البرية عنوان تلك التجربة التي فاجأت قيادة المقاومة نفسها (نموذج صمود عشرات المقاومين في بلدة عيتا الشعب ثلاثة وثلاثين يوماً ومنعهم الجيش الإسرائيلي من إحتلال تلك البلدة التي جرت عند تخومها عملية أسر جنديين إسرائيليين).
ولو تمت محاكاة تجربة حرب غزة الأخيرة، يصح الإستنتاج أنه حصل تطور نوعي في البنية الصاروخية بتحولها من فعل تمهيدي إلى عامل أساسي يهدّد مراكز القيادة والسيطرة والتحشيد ومطارات العدو العسكرية وثكناته وقطعه البحرية ومنصاته الغازية البحرية، بالتزامن مع تطوير خطوط الدفاع من الدفاع بالعمق إلى خطوط غير مستقرة تتمتع بحيوية عالية ومرونة تعطيها الأفضلية بالقدرة على التنقل من مكان إلى آخر.. والأهم هو عنصر المبادرة منذ اللحظة الأولى للمعركة حتى لحظتها الأخيرة. وقد ساهمت تجربة الأنفاق في تعزيز الاستراتيجية الجديدة بخوض حرب غير مرئية وإحتواء الضربات الجوية وبناء خطوط دفاعية لحماية غزة من كل الإتجاهات وتنفيذ إنتشار يوفر مرونة عالية في التصدي لأي عدوان بري، حيث تم تزويد الوحدات القتالية بصواريخ كورنيت المضادة للدروع، وقواذف B27 وB29، كما تم بناء أنفاق لها عدة مخارج وفتحات للدخول والخروج العنكبوتي تفاديا لضربات الطيران أو القصف المدفعي، خاصة في الأماكن المكشوفة وأيضاً لمواجهة الدبابات، وتطلب ذلك بناء أنفاق مموهة على طول تخوم غزة، واستطاعت عبقرية المقاومين إبتداع أساليب جديدة (أسلحة، تقنيات إلخ) وضعتها قيد الخدمة العسكرية للمرة الأولى. ووضعت المقاومة بطاريات مدفعية هاون 120 متحركة على سيارات جيب، أو داخل الأنفاق، تعمل على مزلاف جرى تطويره في مختبرات المقاومة، وبات هذا المدفع متحركاً، بينما كان معداً ليكون ثابتاً نظراً لثقله وحجمه الكبيرين. بالتوازي، جرى تطوير عملية رشق الصواريخ من داخل الأنفاق بواسطة منصات متحركة (هيدروليك) تخرج من تحت الأرض لحظة الرمي وتختفي فور إنتهاء الرشق، كما تم اعتماد الرشق المرهق لتفادي القبة الحديدية والإشغال من أماكن غير ثابتة، وإطلاق صليات متعددة من أعيرة مختلفة، مما شكل حالة إرباك لدى الجيش الإسرائيلي ومنظومته الدفاعية المضادة لصواريخ المقاومة ولا سيما قبته الحديدية. لكن ذلك كله لم يكن لينجح لولا توافر قيادة حكيمة مؤمنة ومحنكة وقادرة على السيطرة على كافة الوحدات عبر تشابك الأذرع العسكرية، وإقامة غرف عمليات متنقلة، بقيادة ميدانية لها أفضلية قيادة العمليات العسكرية. إن تطور آليات العمل والاستجابة السريعة لمسرح العمليات، أحدثا تطوراً نوعياً في المواجهة الأخيرة، وفي موازاة ذلك، عملت القيادة الموحدة على تنسيق عمل فصائل المقاومة بشكل مرن مع أفضلية المبادرة لكل فصيل شرط أن لا يتعارض عمله ومبادراته مع السياق العام للمواجهة عبر توزيع المهام قبل المعركة، حسب إمكانات كل فصيل. هذا التكامل أعطى نتائج مجدية وفعالة في الميدان، مما أتاح لمحور المقاومة المساهمة في تأمين المناخات الشعبية والإعلامية في كل الساحات، وبرز ذلك من خلال تحرك قيادة الفصائل عبر الشاشات وإستخدام السوشيل ميديا، وتوجيه الخطابات وتظهير الإنجازات مما أعطى ثقة في الداخل الفلسطيني بعدم وجود عزلة، فكان أن إنعكس ذلك إيجابا في مناطق الـ 48 وشكل حالة معنوية ناهضة في الداخل والخارج.
وهكذا ظهر الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة علانية في الضاحية الجنوبية في خطاب جماهيري متحدياً الجيش الإسرائيلي، كما ظهر القيادي في حماس أسامة حمدان في المهرجان نفسه وعلى العديد من شاشات التلفزة العالمية، وأبو أحمد فؤاد قائد وحدات “أبو علي مصطفى” من دمشق، وإسماعيل هنية من قطر في خطاب جماهيري، وأيضا تم تأمين تغطية كاملة لكل من المتحدث العسكري أبو عبيدة والقيادي أبو حمزة. كانت إدارة المعركة ناجحة على كل المستويات العسكرية، السياسية والإعلامية، ولم يشعر الشعب الفلسطيني بعزلة أو حصار، وجاءت التحركات الشعبية من الجنوب اللبناني والغرب الأردني على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة وكأنها جزء أساسي من المعركة، أو كأنها في صلب المعركة، وهذا الأمر أدى إلى رفع منسوب التحركات في كافة أنحاء العالم بالتزامن مع انتفاضة أبناء الـ48 والضفة الغربية. لقد شكلت هذه الجولة منعطفا جديدا في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي يفتح الباب أمام تطورات يرجح أن تكون كبيرة ومفاجئة في المعركة المقبلة القادمة حتماً مهما طال الوقت.. عندما يقاتل الفلسطيني على أرض فلسطين، يفقد هواة المزايدة حجة وذريعة التوظيف والشيطنة. عندما يقاتل الفلسطيني في غزة ورام الله وحي الشيخ جراح ويافا وأم الفحم، تسقط الحواجز الجغرافية ونكتشف حرارة الناس ليس من البحر إلى النهر بل من المحيط إلى الخليج.
180Post