غسان سعود | كاتب سياسي لبناني
في ذروة الاشتباك الإقليميّ والدوليّ عشية الجولات الحاسمة في المفاوضات الأمميّة بشأن البرنامج النوويّ، حمل وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح ما يُمكن وصفه بوثيقة الاستسلام للفريق السياسيّ اللبنانيّ الذي عجزوا عن هزمه بآلة الحرب الإسرائيلية في العام 2006، ثم بالمحكمة الدولية، ثم بشيطنته بجميع الوسائل الاحترافية، ثم بجيوش التكفيريين، ثم بالثورة الملونة، ثم بالتجويع والحصار، مع كلّ ما اقتضاه ذلك من إيقاف التنقيب عن الغاز، ومنع التحويلات المالية الكبيرة من الخارج، والتلاعب بسعر الصرف، مع منع المسّ بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومنع أيّ حلول إنسانية لأزمة اللاجئين السوريين.
وفي مفارقة غريبة لا تختلف كثيراً عن جميع المقاربات السعودية لملفات المنطقة، قرَّرت المملكة أنَّها تستطيع، عبر ما يسمى “المبادرة الكويتية”، أن تأخذ بالسّلم كلّ ما عجزت هي و”إسرائيل” والجماعات التكفيرية وفرنسا والولايات المتحدة عن أخذه بالقوة والأمن والإعلام.
أما الأغرب في هذه المفارقة، فهو أنَّها تطلب الاستسلام الكامل من دون أيّ مقابل، فلا يوجد تعهّد بحلّ أزمة المديونية مثلاً أو الإفراج عن الغاز اللبناني أو حلّ قضيتي اللاجئين والنازحين أو أيّ شيء آخر. على العكس تماماً، إنها مبادرة تقوم على مطالبة الأقوى شعبياً وأمنياً وعسكرياً وانتخابياً بالاستسلام الكامل من دون أيّ مقابل، لتقرر لاحقاً الدولة السعودية الكريمة ما تنوي فعله.
يأتي هذا كلّه بعد أسابيع قليلة من تقديم وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي استقالته مجاناً، ومن دون أيِّ مقابل متّفق عليه مسبقاً، ليتمّ تجاهل هذه الاستقالة من قبل الدول التي كانت تطالبه بها، والتي ما زالت تتمسّك بكلِّ ما اتخذته من إجراءات انتقامية قبلها وكأنَّها لم تحصل!
مبادرة من 12 بنداً أبرزها ضمان أمن “إسرائيل”
ما وُصف بالمبادرة الخليجية تألَّف من 12 نقطة. عند التدقيق بها، يتبيَّن أنّ هناك 7 بنود يمكن القول إنَّ لدول مجلس التعاون الخليجي الحق بمناقشتها مع لبنان، هي:
البند الأوّل المتعلّق بالتزامه بكلّ استحقاقات مؤتمر “الطائف”. البند الثاني المتعلّق بالتزامه بكلّ قرارات الشرعية الدولية وقرارات جامعة الدول العربية. البند الرابع المتعلق بالنأي بالنفس قولاً وفعلاً. البند السادس المرتبط بوقف تدخل حزب الله في الشؤون الخليجية. البند السابع الخاصّ بوقف كلّ أنشطة الجماعات المناوئة لدول مجلس التعاون انطلاقاً من لبنان. البند التاسع الخاص بوضع آلية لضمان خلو الصادرات اللبنانية من أية ممنوعات. والبند الحادي عشر الخاص بوضع نظام تبادل معلومات أمنية بين دول مجلس التعاون والحكومة اللبنانية.
في المقابل، هناك 5 بنود لا علاقة لأزمة لبنان مع دول الخليج بها، كما لا علاقة للبنان مع دول الخليج بها من قريب أو بعيد، فالبند الثالث مثلاً في المبادرة الخليجية يؤكّد “مدنية الدولة اللبنانية”، في مفارقةٍ تطالب فيها 6 دول غير مدنية الدولة اللبنانية باحترام “مدنيّة الدولة”، فيما يطالب البند الخامس بوضع موعد زمني محدد لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، من دون أن تتضح علاقة “أمن إسرائيل” الذي تهدف هذه القرارات إلى حمايته بالأزمة بين لبنان ودول الخليج، إلا إذا كانت الأزمة ترتبط بأمن “إسرائيل” أساساً، وليس بتهريب الكبتاغون أو حرية الرأي والتعبير والانتماء والعقيدة في لبنان!
وفي البند الثامن، تطالب دول المبادرة التي لا تجري على أراضيها أية انتخابات حقيقية باحترام مواعيد الاستحقاقات الانتخابية اللبنانية، في وقت يتحدّث البند العاشر عن بسط سيطرة السلطات الرسمية اللبنانية على كلّ منافذ الدولة، من دون أن تتّضح هنا أيضاً علاقة هذا البند بالعلاقات اللبنانية – الخليجية، مع العلم أنَّ هذا البند تحديداً هو الشغل الشاغل للإسرائيليين الذين يضغطون بجميع الوسائل على الروس لأداء دور ما على طول الحدود اللبنانية – السورية لإيقاف تدفّق السلاح، بعدما باءت جميع المحاولات البريطانية والأميركية لتحقيق هذا الهدف بالفشل الذريع، رغم أبراج المراقبة والكاميرات وغيرهما.
أما البند الثاني عشر، فينصّ على العمل مع البنك الدولي لإيجاد حلول مالية للمودعين اللبنانيين، من دون أن تتّضح هنا أيضاً علاقة الأزمة اللبنانية – الخليجية بما يفترض بالحكومة اللبنانية أن تقرره، لجهة العمل مع البنك الدولي أو إيجاد أية مخارج اقتصادية أخرى.
وفي النتيجة، يبدو واضحاً أنّ ما وُصف بالمبادرة الخليجية ليس في واقع الأمر إلا وثيقة مكتوبة توثّق أحلام كلّ من “إسرائيل” أولاً (الأمن والأمان والتوطين ونزع السلاح)، والسعودية ثانياً، والولايات المتحدة ثالثاً، وفرنسا رابعاً، لكنها لا تقدّمها للنقاش أو تضعها على طاولة التفاوض، كما يحصل في العادة بين القوى المتصارعة، في ظلِّ تأكيد المطلعين أنَّ مضمون “المبادرة” وطريقة تقديمها أشبه بإعلان حرب رسميّ، لكنَّ لياقة الدبلوماسية الكويتية كانت أشبه بمن يفرغ دلو مياه باردة فوق الرؤوس الحامية، حيث نزعت صواعق التفجير، في ظلِّ قناعة الكويت وسلطنة عُمان وقطر بأن التهديد والوعيد لا يمكن أن يكونا الحلّ مع لبنان، بعد فشل جميع المحاولات التصعيدية الأخرى، من دون أن يتّضح للوفد اللبنانيّ الذي زار الكويت أخيراً ما إذا كان الموقف الإماراتي يتناغم بالكامل مع السعودية، في ظلّ وجود مناخ عربيّ عام ضاغط في تأكيده عدم جدوى التصعيد ضد لبنان، تزامناً مع المصالحة الخليجية مع سوريا، حيث لا تزال العِبر من عبثية التصعيد طازجة.
موقف لبنان الرسمي: عصفوران بحجر واحد
بدورها، تعاملت رئاسة الجمهوريّة اللبنانية مع “الأفكار” التي حملها وزير خارجية الكويت بوصفها فرصةً لـ”مخاطبة” الدول العربية ومن يقف خلفها بشكل علنيّ وواضح وشفاف، بحيث يرى الرأي العام اللبناني والعربي كلّ ما يحصل بوضوح تام، وستزداد الأمور إيجابية في حال تشكيل لجان مشتركة للتنسيق الأمنيّ ومنع تهريب الممنوعات، في حال عودة التبادل التجاري بين لبنان والدول الخليجية وغيره.
هذا هو العصفور الأول. أما العصفور الثاني، فهو ما تضمّنته رسالة رئيس الجمهورية إلى أمير دولة الكويت في أداء دور مباشر في إيجاد الحلول لكلِّ المشاكل العالقة، سواء بسبب عجز مجلس الأمن عن إقناع “إسرائيل” بتنفيذ القرارات الدولية بكلِّ ما تتضمنه من إعادة للاجئين وانسحاب من الأراضي المحتلة أو غيره، مع العلم أنَّ الرئيس عون كان من أكثر المرحّبين بمبادرة الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون، الذي سرعان ما أبلغ من الولايات المتحدة والخليج بأنه لا يستطيع المضي قدماً في مبادرته، فانكفأ إلى الخلف. وكذلك، زار رئيس الجمهورية الدوحة التي وعدت بزيارة وزير خارجيتها لبيروت بحثاً عن “ورقة” ما، لكنه لم يجد طريقه إليها بعد.
وفي ظلِّ تأكيد المطّلعين على أجواء النقاشات الدبلوماسية أنَّ ما تضمَّنته الورقة الكويتية يشمل عدداً مهماً من مشاكل الدولة اللبنانية العالقة في الأمم المتحدة، وفي مشاكل الإقليم، وفي تجاذبات الداخل اللبناني، منذ أكثر من 3 عقود، وإذا كانت هناك فرصة لوضعها جميعها على الطاولة لإيجاد حلول جذرية لها تعالج أساس المشاكل لا تداعياتها أو تفرّعاتها، فإن هذا سيكون أكثر بكثير مما تتطلَّع إليه رئاسة الجمهورية.
مصير الورقة الكويتية كمصير المبادرة الفرنسية
في النّتيجة، يمكن القول إنَّ فرنسا حضرت بوصفها قوّة عظمى لها تأثيرها في فيينا، ولها تأثيرها المعنوي في حزب الله، في ظل تمنّعها عن تحقيق التطلّعات الإسرائيلية بوضعه في قائمة المنظمات الإرهابية، ولها نفوذها التاريخيّ في لبنان. ومع ذلك، فقد كانت متواضعة جداً في ورقتها، رافضةً البحث بأيِّ شكل من الأشكال في نزع سلاح حزب الله، باعتباره أمراً مستحيلاً يمثل مجرد مضيعة للوقت.
أما السعودية التي تتخبّط في الرمال المتحركة اليمنية، من دون أن يكون لها تأثير معنوي أو غيره في حزب الله في أكثر اللحظات تأكّلاً لنفوذها في لبنان، فقد أتت لتضع ورقة لا تجرؤ الولايات المتحدة في ذروة وقاحتها على وضعها. ومع ذلك، إنَّ اللياقة الدبلوماسية الكويتية تقتضي لياقة دبلوماسية لبنانية مقابلة، ويفترض بالورقة أن تقابل بورقة ليحكم العقل على الورقتين، مع التأكيد أنَّ تعامل رئاسة الجمهورية مع الورقة الكويتية من جهة، وحفلة التحريض القواتية على الدولة اللبنانية ووجوب معاقبتها من جهة ثانية، سمحا للرأي العام بأن يرى بوضوح كيف تسعى رئاسة الجمهورية لنزع فتيل التفجير والانحناء للعاصفة، وكيف تريد القوّات اللبنانية، في المقابل، من الدول الخليجية الانتقام من لبنان واللبنانيين، وهو بحد ذاته إيجابية كبيرة للورقة الكويتية.
لكن هذه هي حدود اللعبة، ولا شيء أكثر يُعوّل عليه. بذلت الدولة اللبنانية – وما زالت – كلّ الجهد اللازم لاحتواء التصعيد السعودي بنوباته الهستيرية المتراكمة، من دون أن يصل ذلك إلى حدّ الانكسار أو الاستسلام أو إعلاء الرايات البيضاء والتسليم بالأوامر السعودية. احتواء التصعيد، لكن ليس الخضوع لهذا التصعيد. هذا هو سقفها، وما لم يُعطَ 1% منه لفرنسا التي عرضت الأثمان لأجله، لن يُعطى مجاناً أو مقابل أثمان للسعودية.