اتسمت معركة جبل الشيخ بأهمية عسكرية بالغة. وهي تعتبر من الأحداث الهامة في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وتحتل مكاناً خاصاً في تاريخ هذه الحرب. فهي أول معركة استطاعت أن تحطم الغرور والادعاء الإسرائيلي، وفيها تمكنت قواتنا الخاصة من احتلال قلعة منيعة من قلاع العدو، الذي صورته الدعاية الصهيونية أنه قوة لا تقهر. ففي هذه المعركة تم تدمير الوحدات المعادية في مرصد جبل الشيخ، كما تم أسر عدد من الإسرائيليين بأقل وسائط ممكنة في تاريخ الحروب.
كان مرصد جبل الشيخ المعادي يرتفع عن سطح البحر 2224 متراً وكان بطبيعته موقعاً منيعاً. وهو يسيطر على كل المناطق الممتدة من سفوح جبل الشيخ الشرقية، إلى غوطة دمشق وسهول حوران. وإن السير عبر المسالك المؤدية إلى المرصد أمر في غاية الصعوبة. وكان معلوماً لدى القيادة أن العدو جعل من هذا الموقع قلعة حصينة، وجهز بأحدث الأجهزة الالكترونية للاتصال والمراقبة والتشويش.
في ليلة 6 تشرين الأول، وقبل بدء الهجوم، تمكنت مجموعة من الوحدات الخاصة من الوصول إلى محور شبعا ـ جبل الشيخ، حيث نصبت كميناً لقطع الطريق على القوات القادمة لنجدة المرصد أثناء مهاجمته من قبل قواتنا. وفي ظهر يوم 6 تشرين الأول، ابتدأت المعركة من أجل احتلال المرصد المعادي، بعد بدء التمهيد الناري. حيث تقدمت الموجة الأولى من الوحدات الخاصة باتجاه المرصد المعادي، قد كان من المقرر أن يتم اقتحامه على شكل موجات متلاحقة، وتتكون كل موجة من مجموعة من المقاتلين يتقدمهم ضابط. أما مجموعة الحماية فقد تمركزت مسبقاً في المنطقة الغربية منه، ومهمتها تدمير أية قوات معادية تتقدم باتجاه المرصد.
وعند وصول الموجة الأولى إلى المرصد، اندفعت نحو المدخل الخارجي، وتمكنت من تدمير الرشاش 12,7 مم، الذي فتح نيراناً غزيرة عليها.
وقد أُصيب قائد الموجة الأولى الملازم أول جاسم الصالح برشقة في صدره فسقط جريحاً أمام مسند الرشاش المعادي ثم سقط جريح ثانٍ، وثالث. حينئذ تولى النقيب محمد الخير الذي كان يشرف على التقدم قيادة المجموعة الأولى، وفي هذه الأثناء اندفع أحد مقاتلي المجموعة الأولى باتجاه سارية العلم الإسرائيلي المرفوع فوق المرصد. إلاّ أنّ رشقة نارية (عربة مدرعة معادية عليها رشاش 12,7 مم). حالت دون وصوله إلى العلم، فسقط شهيداً مضرجاً بدمائه تحت السارية.
قاوم الإسرائيليون بكل صلابة وعناد. واتخذ القتال طابع العنف الشديد ولاسيما عندما تم إنزال جوي رأسي بوساطة طائراتنا العمودية فوق المرصد، واندفعت عناصر الإنزال بجرأة نادرة تقاتل جنباً إلى جنب مع عناصر الموجة الأولى. وبإشارة من النقيب المشرف على التقدم قفز أحد المقاتلين على العربة المدرعة من فوق السور الداخلي، وتمكن من قتل الإسرائيليين اللذين كانا يفتحان النار على المقاتلين. بعدها اندفع النقيب باتجاه سارية العلم، وعندما حاول أحد الإسرائيليين قتله، بادره بقنبلة يدوية أردته قتيلاً، وصعد النقيب الدرج المؤدي إلى سارية العلم. وعلى الرغم من النيران الإسرائيلية، أمسك بالعلم، وأخذ يلوح به بيديه وهو يردد صيحة النصر: الله أكبر.. الله أكبر عاش الفريق الأسد. ولم يكد المقاتلون يسمعون صيحة النصر، تُجلجل في الموقع حتى اندفعوا كالصواريخ وهم يرددون: الله أكبر.. الله أكبر، التي انطلقت من حناجرهم هادرة كالرعد القاصف واقتحموا الموقع الحصين،كل منهم باتجاه الهدف المحدد له.
شاهد أحد المقاتلين ضابطاً إسرائيلياً يحاول رمي النقيب محمد أثناء اندفاعه إلى سارية العلم، فأسرع كالبرق الخاطف، وهدد الضابط الإسرائيلي بقنبلة يدوية طالباً منه رمي السلاح والاستسلام، فأسقط في يده، ورفع يديه مستسلماً. وأثناء القتال العنيف، الذي دار فوق المرصد،تم إنزال مجموعة أخرى من الوحدات الخاصة بالحوامات إلى الغرب من المرصد المعادي، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات، حيث نصبت المجموعة كميناً على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ.
وبعد نجاح عملية اقتحام المرصد، التي لم تستغرق سوى نصف ساعة، تحركت مجموعة التطهير، وقامت بتطهير سراديب المرصد. وقد تمكنت من أسر عدد من الإسرائيليين، الذين كانوا مختبئين في الغرف الداخلية ضمن السراديب. وفي صباح 7 تشرين الأول قام العدو بقصف جوي ومدفعي متواصل وشديد على المرصد المحتل ـ إلاّ أنه لم يسفر عن أية نتيجة وتابعت المجموعات القتالية أعمالها في تنظيم الدفاع عن المرصد، وإخلاء الشهداء والجرحى، كما تابعت تطهير الممرات والسراديب الداخلية، حيث ظلت بعض الغر مغلقة بأبوابها الحديدية التي لا ينفذ منها الرصاص، وكلفت مجموعتان بمتابعة التطهير، وقد استعانت هاتان المجموعتان بالأسرى، لاسيما الشرقيين منهم، من أجل الاهتداء إلى مداخل المرصد ومخارجه، وجرت عملية التطهير بصورة ناجحة على الرغم من بعض العناصر المعادية التي أبدت مقاومة كبيرة، واحتمت خلف الأبواب الحديدية السميكة في الغرف الداخلية. إلا أن القنابل الدخانية والقنابل اليدوية الهجومية، التي أُلقيت عليهم من فتحات التهوية في سطح المرصد، اضطرتهم للخروج والاستسلام، وهدأ النقيب من روعهم وأخبرهم أنهم سيعاملون كأسرى. وفي صباح 8 تشرين الأول حين كان مقاتلو الوحدات الخاصة في أماكنهم حول التباب المحيطة بالمرصد. وفجأة دوى انفجار قنبلة من طائرة معادية فزلزل الأرض. وتبع الانفجار الأول انفجار ثانِ وثالث. وتوالت الانفجارات من طيران العدو ومدفعيته.
سمع قائد مجموعة الكمين على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ، هدير محركات وصليلاً (سلاسل دبابات ومجنزرات..) وكان الجو يتميز بالضباب الكثيف الذي ينقشع لفترة قصيرة ثم يعود. ومن موقعه الدفاعي شاهد الدبابات المعادية تتقدم على محوري مجدل شمس ـ جبل الشيخ، وشبعا ـ جبل الشيخ باتجاه المرصد. أخبر قائد الكمين النقيب.. وكانت عناصر القواذف المضادة للدبابات موزعة ما بين المرصد والكمين على مجموعات، تتألف كل مجموعة من ثلاثة مقاتلين مزودين بالرشاشات الخفيفة والمتوسطة والقنابل المضادة للدبابات. وزرعت الألغام على المحورين زرعاً ظاهرياً لإرغام الدبابات على الوقوف، وترجل عناصر العدو لإزالتهم فيكون الجميع هدفاً واضحاً للنيران. تابعت الدبابات المعادية تقدمها، وكمن المقاتلون في مواقعهم، منتظرين وصول أولى الدبابات. وما هي إلاَّ نصف ساعة،حتى وصلت دبابات العدو وتوقفت أمام الألغام الملقاة بطريقة واضحة على الطريق، وترجل منها الجنود الإسرائيليون لإزالة الألغام. وهنا انهال المقاتلون على جنود العدو ودباباته، وأخذوا يقذفونها بالقنابل المضادة للدبابات فاشتعلت النيران فيها. ولقد قدر عدد الدبابات المتقدمة على محور مجدل شمس ـ جبل الشيخ بـ 35 دبابة ومجنزرة. وعلى محور شبعا ـ جبل الشيخ بحوالي 45 دبابة ومجنزرة. وفي هذه الأثناء بدأت المعركة، وأخذ النقيب محمد قائد المجموعات يتلقى تقارير القتال من مجموعات الهضاب الغربية عن تسلل عناصر معادية. وكان الأمر الصادر عنه: دمر العدو، وامنعه من التقدم. ونشبت في منطقة الهضاب الغربية اشتباكات مباشرة بين المقاتلين والإسرائيليين، استخدمت فيها الرشاشات والقنابل اليدوية والحراب. وأثناء القتال العنيف، تمكنت مجموعة معادية من التسلل من سفوح المرصد الجنوبية الشرقية المقابلة لقرية حضر. إلاّ أن أحد الضباط المقاتلين قام مع خمسة من عناصر مجموعته بالالتفاف حول السفوح الشرقية الجنوبية للمرصد، بينما قام ضابط آخر بتثبيت العدو بالنيران وتمكن الضابط الأول من تركيز رشاشاً متوسطاً على إحدى الهضاب، وفتح النيران فجأة على العدو ودمره.
وعندما تابعت بقايا من دبابات العدو تقدمها على المحورين المذكورين، تكفلت بالقضاء عليها المدافع المضادة للدبابات المتمركزة في الهضاب، واندفع المقاتلون يصبون سعيرهم عليها، وشتت غزارة النيران تشكيل العدو القتالي. ومن البطولات الرائعة قيام أحد المقاتلين بمأثرة بطولية.. فأثناء صد هجوم العدو المضاد، أمسك بقنبلة يدوية، وزحف باتجاه دبابة القائد المعادي، وانتظر حتى اقتربت الدبابة، وبقفرة واحدة، تسلق جسم الدبابة من أعلى، وفتح الغطاء وألقى بنفسه وبقنبلته اليدوية فيها. وفجأة أصبحت الدبابة الرهيبة كتلة من الخردة والحديد المحترق. وعندما تبدد الدخان، شاهد المقاتلون الدبابة مشتعلة واندفعوا بحماسة وإقدام ليثأروا للبطل الشهيد.
كان صمود الوحدات الخاصة وحماستهم مفاجأة تامة للعدو، الذي سرعان ما لجأ إلى الفرار من أرض المعركة، بعد أن خلف عشرات القتلى وراءه. إلاّ أن المقاتلين من مغاوير الوحدات الخاصة كانوا للعدو المنسحب بالمرصاد. وقد تمكنت سرية مغاوير، كانت تهاجم في منطقة مجدل شمس على مجنبة الفرقة السابعة من تدمير العناصر المعادية المنسحبة. وأنزلت بهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات. لقد أصبحت هزيمة مجموعة الدبابات المعادية التي اندحرت في منطقة جبل الشيخ مأثرة من مآثر البطولات الخارقة لا يرقى إليها الشك. ولقد منح النقيب محمد الخير وبعض المقاتلين وسام «بطل الجمهورية» تقديراً لما أبدوه من جرأة وشجاعة في هذه المعركة.