محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني
منذ شيوع النكتة الإنتخابية العربية البائسة (99،99 %)، والديمقراطية عند العرب صارت مثل البطيخ… فهنا إنقلابي يُصبح بحكم البندقية “ثائراً”، وهناك متسلل تجعله المسدسات كاتمة الصوت “رئيساً مُنتخباً”، هذا من دون تجاهل شيوخ عشائر السلب والنهب الذين رسموا أنفسهم، بالسيف والفأس وبريطانيا، أصحاب “جلالة” وحُمّال “سُموّ”، مُصادرين من القرآن الكريم أسماء الجلالة المقدّسة ليُسبغوها على شخوصهم المتشاوفين بتلك الأزياء المضحكة… إنما المُطرّزة بالذهب المغصوب.
غاية القول أن العرب نجحوا بامتياز في تحويل مفهوم الديمقراطية إلى جارية مما ملكت سواعدهم، يُملون عليها ما تأتي به أشداقهم النهمة، ويُخضعونها لما يعتمل في دواخلهم النتنة من شهوات وشواذات.
ومع أفول الشمس الديغولية عن بلدنا خسرنا الأم الحنون التي كانت ترعى وتحمي وتؤثر، وانحدرنا نزولاً بفضل مجموعة من الرؤساء الذين تعاقبوا على الإيليزيه، وتدرّجوا هبوطاً نحو القاع بعد فرنسوَا ميتران، من شيراك “الأجير” عند صاحب المال (والذي انتهى إلى القضاء بعد رحيله)، حتى ساركوزي نزيل السجون المُبتلي بالرشاوى، وصولاً إلى ماكرون الظاهرة الصوتية البلا مضمون.
هكذا عملنا بأيدينا الجاهلة على أن تتسلل أمراض “العروبة” من “وجه لبنان إلى جسده ونبضه”، فنهشنا ديمقراطيتنا باسم تحرير فلسطين وتعريب لبنان ووأد المارونية السياسية وفرض التعطيل لتأدية الصلاة الإسلامية أيام الجمعة، باعتبار ذلك هو صكّ الإيمان وجواز الدخول إلى النعيم، حتى سقطنا مُضرّجين بفؤوس الجهل المُطبق ومؤثرات الخلط الهمجي –الجاهلي بين العروبة والإسلام (الذي لم يبقَ منهما أيّ اثر). وجاء من يمتهن زرع المتاريس ومواسم الكراهية ويُسوِّق محصوله عندنا، فأكلنا وتسممنا ليربحوا هم… وراحوا بعد نفاذ قَدّرهم، يُمننوننا بـ”إنهاء الحرب وإنجاب السلم الأهلي”… وهذا لقب شيطاني بمثابة قِناع وضعوه على وجوههم المرسومة بدمائنا وأولادنا وأحبّائنا وأرزاقنا وحاضرنا والمستقبل، ثم انتقلوا من مرابض الهواوين وحضائر الصواريخ وستائر أكياس الرمل وثقوب القنص، إلى عروش المسؤولية والإدارة والقضاء، رؤساء ووزراء ونُوّاب ومدراء وقادة عسكريين وأمنيين إلى آخره. ورحنا نتابع سقوطنا الفظيع تحت أنياب الثورية السياسية ثم السنّيّة السياسية والشيعية السياسية والدرزية السياسية… بعد الفلسطينية السياسية والردعية السياسية ثم أخيراً الحريرية والعونية و.. و.. واللائحة ما تزال مفتوجة.
إحدى النتائج البارزة لإلياذة العذاب والمعاناة هذه، كانت تحويل الديمقراطية إلى مومس رخيصة يمتطيها حُكّام الأمر الواقع، ويُنجبون منها سِفاحاً فرمانات لقيطة ينهبون بمفاعيلها، كل ما يتيسّر لهم، ولهم كُل الأموال مُتيسّرة لهم، في المشاريع وفي التوافقات الرضائية والتحاصصية وفي الأوتوسترادات والجسور التي قبضوا ميزانياتها ولم يُنفّذوها، هذا إضافة إلى مدّ أيديهم “الطائلة” الطويلة إلى الخزينة مباشرة، من دون رادع من سلطة ولا وازع من ضمير.
والتاج المُضيء بالعتمة الشيطانية على كومة هذا الهيكل المُريع كلّه يحمل عنواناً يتلألأ مثل خنجر مسموم في صدر عارٍ: تأجيل الإنتخابات النيابية المقبلة بمعنى إلغاءها. ولتحقيق الأمر ينبغي تدبر مشاحنات بالسلاح… طوائفية ومناطقية ودينية بين قُطعان البلد، لزوم المشهد، وتعويم أحاديث وتحليلات مُلفقة عن ربيع لبناني مبعوث ومُتجدد… وكل ذلك لجعل هدف تأجيل الانتخابات وتأبيد الأيادي السود، مطلباً “وطنيا” عاماً مُبرراً وأمراً واقعاً ومآلاً لا بدّ منه.
ويجري كل ذلك تحت غطاء “إنتقادات كلامية” أوروبية وأميركية وخليجية وعربية وشمال أفريقية وجنوب أميركية وأسيوية … من دون أن يرافقها أي قرار عملي بالمعاقبة.
ولا داعي لطرح الصوت والإهابة بالشعب كي يثور…فلا شعب على السمع، بل قطعان من البغال، والسِباق على أشدّه. ومهما اجتهد البغل لن يصبح حصاناً.