هَجينٌ لكنّي أُحبُك

د . روني الفا | كاتب وباحث لبناني

تحتارُ ماذا تفعلُ بِلبنان. أنتَ محسوبٌ عليه شئتَ أم أبيت. تحملُه في جوازِك أينما حلَلتَ وفي جيناتِك وحمضِكَ النووي. تخجلُ منه أحياناً وتعتزُّ به أحياناً أُخَر. كلُّ تمزّقٍ يعتريه يقطعُك إرباً. أنت تكرهُه وتحبُّه، تتركُه فلا يتركُك.

يمكنك أن تهربَ من لبنان إلى أي مكانٍ في العالم تراه يعودُ إليك في المنام وعلى أطرافِ المآقي. تقرّرُ الطلاقَ منه فيعقدُ قرانَه عليك بالغَصب. يتزوَّجُكَ خَطيفَة. تثورُ عليه كأنما تثورُ على ذاتِك. يقتلُك في مواطنيَّتِك فتحبُّه أكثر. يهينُك ويذلُّك فتتلذَّذ بالمَهانة. كلُّ ما فيه مقزّزٌ ومُحببٌّ في آن معاً. ينساك فتتذكَّره ويخونُك وتصدقُ معه. ليس هناك أعمق من الحب الذي يجمعُك به. بالرضى أو بالإكراه أنتَ ملتصقٌ به إلتصاقَ الجنينِ بالرّحم.

نحن مواطنون من دون وطنٍ حقيقي. قدرُنا البحثُ المستمرُّ عنه. مِن خطأٍ جغرافي إلى نظامٍ هجينٍ أنتَ مصرٌّ دائماً على أن تخلُقَ لبنانَ كل يوم لتنالَ رتبةَ مُواطن. لبنان يموتُ في الكَفن كلَّ يومٍ ويولدُ في المهدِ كلَّ يوم.

تقولُ في سريرتِك فليكُن هجيناً، فليكن مِن الأوطان ذَوي الإحتياجات الخاصّة، فليكُن مقعداً، فليكُن أعرجَ وأفكحَ وأعورَ سأحبّه برغم حالته. يسرقُك في وضح النهار فتسامحُه بمالِك وعيالِك. يضطهدُ أحلامَك ويجهضُها فتعشقُ كوابيسَه وتُقبّلُها. تسافرُ منه إلى أقاصي الأرض فيتبيَّنُ أنك تسافرُ إليه من أقاصي الأرض. حدودُه المعترفُ بها دموعُك الساخنة وجثامينُ شهدائِك الباردة. حبُّك له يقتلُه في كل لحظة وفي كل لحظةٍ تموتُ فيه ألف مرّة. نحن شِعابٌ متشعِّبَةٌ لا شعوب.

لكلٍّ مِنّا لبنانُه وبالرغم من هذا نحكي عن لبنان واحدٍ أحد. حالةٌ فريدةٌ في التاريخ أن تكونَ في وطنٍ قيدَ الإنشاء. وطنٌ في غرفةِ الولادة دون أن يولَد. وطنٌ محكومٌ بأوجاعِ الطَّلق دون توسّعِ بيتِ الرَّحِم.

تكرِّجُ لبنان على كرسي مدَولَب. يَكرجُ فيك بدَلَ أن تَكرُجَ فيه. بدلَ أن يهتمَّ بأمرِك تهتمُّ أنت بأمرِه. ليس هناك من بلدٍ في العالم يحبُّه أبناؤه أكثرَ مِن لبنان. تصرُّ على إطعامِه وعلى حُسنِ هندامِه. تنظّفُّه وتغسلُه بدموعِك وتصلّي له بكل لغاتِ العالم. تقرأُ له الفاتحةَ وتتلو له الأبانا والسلام. تطوِّبُه وتدهنُه بالميرون وتخضّبُه بالعطوروتسرّحُ ضفائِرَه لأنك تعرفُ أنك من دونه حشرةٌ بشريةٌ تحومُ على الفراغ الكوني. تتباهى بتردادِ اسمِه في الكتب المقدّسَة علّك تلفتُ انتباهَه فيتحوّلُ إلى وطنٍ لائق. تسهرُ على نومه وتقدّمُ له ترويقةً من لحمِك كلّما جاع وكوباً من دمِك كلما عَطِش.

أنت سجينٌ طليقٌ في لبنان. سجنٌ من دون قضبان. كل شيء يدعوك للإفلات منه لكنك تعشقُ عبوديَّتَك فيه. أنت فيه السجّانُ والسَّجين. الجلّادُ والمَجلود. القاضي والمتَّهم. تضيقُ بكَ الدنيا معه وتتسّعُ رحابُك كلّما تنفّستَ هواءَه.

يتجدَّدُ أملُك في لبنان بعد كل معركة. تنسى ندوبَك وتعودُ طائعاً مختاراً إليه. يفعلُ كل شيء ليخونَك مع خلّان الصّدفة. عشّاقُه كثرٌ له معهم فضائحَ كثيرة. تسامحُه شرط أن يعلن لك حبَّه. تصدّقُه فيكذبُ عليك. تعاملُه بالوفاء يبادِلُك بالخيانة. وطنٌ منفلشٌ على كل ما يحيط به. مغرّرٌ به. مراهقتُه متعبةٌ ورشدُه مؤجّل. لا بأس تقول. غداً أو بعد غد يعودُ إلى كنفِ أولادِه.

يقتلُك انتظارُك. تتأملُ بلبنان من جيلٍ إلى جيل. مع انتهاء كل حرب تنتظرُ هدأةَ خاطرِه. لكنه مصرٌّ على حياةٍ ماجنة. مخدّراتُه في جعبتِه يتعاطى الكحولَ الطائفية ويسكرُ بها أمام ناظريك. تبكيه فيضحك. ترثيه فيُعربد. ماضيه يسدُّ مستقبلَه ومستقبلُه يجترُّ ماضيه.

أنتَ في حالة يأسٍ ورجاءٍ من لبنان. يهزمُك اليأسُ منه فتأتيك كذبةُ الرجاء. تعلّمُ أولادَك أن يحبّوه أما هو فلا يهتمُّ بأحفاده. يكمِلُ احتساءَ زجاجةِ الكحول أمامَهم ويطردُهم من الحانة. لعنتُك المتناسلة أنك تحبُّ من طرفٍ واحد.

محبوبُك لا يؤمن بهذه الترّهات. يؤمنُ بالآلِهَة. الإلهُ الواحد يخيفُه. قدرُك أن تتعذَّبَ وقدرُه أن يعذِّبَك. قدرُك أن تنتظرَه وقرارُه ألا يأتي أبداً.

النهار

Exit mobile version