هل يقدر حزب الله على كلّ شيء؟
الشيخ الدكتور صادق النابلسي | استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية
أين هو حزب الله؟ أما كان يعلم أنّ هناك حرباً اقتصادية قادمة؟ لماذا لم يستعدّ لها؟ لماذا لم يجهّز الصوامع والمخازن للقمح والبنزين والمازوت كما جهّز الأنفاق والسلاح؟ لماذا لم يستصلح الأراضي ويشجع على الزراعة باكراً؟ لماذا لم يبنِ المصانع لاستيعاب آلاف العمال؟ لماذا لم يدعُ المستثمرين الشيعة والمؤيّدين للمقاومة للاستثمار في القطاعات الإنتاجية بدل رمي المسؤولية على السلطة التي يعرف الجميع أنّ الريع هو أساس استراتيجيتها للاستمرار حقبة تلو حقبة؟ لماذا لم يحذّر المودعين من كارثة عاصفة ستأكل جنى عمرهم؟ لماذا لم ينبّه ويحذّر من هول الأزمات الآتية في الكهرباء والماء فيعرف كلّ فرد طريقه خارج هذا العراء القاتل؟ أليس الحزب يعرف كلّ شيء؟! أليس الحزب قادرًا على كلّ شيء؟! أما الآن، فلماذا يتعامل الحزب مع الأزمة على قاعدة ردّ الفعل فحسب؟ لماذا يجلس حائراً وكأنّه لا يملك مبادرة ولا خطة ولا بدائل؟ لماذا يخاطب جمهوره وكأنّه أعزل من عنفوانه وقوّته؟ لماذا لا نجد في خطاب مسؤوليه إلّا خطاب تحميل الأزمة للآخرين المجهولين لا تصل إليهم يد القصاص العادل؟ لماذا يُدين سلطة على تقصيرها فيما يعرف أنّه ليس من أمرها شيء بل هي مشاركة في العدوان ومساهمة في الحرمان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا..؟ أسئلة كثيرة تخرج من جميع فجاج بيئة المقاومة التي يستحيل موضَعة أفرادها في طبقة واحدة وخطّ واحد في الوعي والتساؤلات والإيمان والشك.
إنّ عقدين حافلين بالإنجازات العسكرية خطّ تصوراً سريعاً عند بعض هذا الجيل بالقدرة على فعل كل شيء. وربما أعطى مشهد الانتصارات، تحديداً في سوريا، وهماً بأنّ كل ما يمكن أن يفعله العدو سيتفكك وينهار ويفشل خلال وقت قصير، وقد تكون معادلات الردع التي أرستها المقاومة مع الكيان الإسرائيلي أفرزت بنية نهائية أو بدا أنها نهائية من أنّ قاعدة «العين بالعين والسن بالسن» سارية في كل الأوقات وفي كل الظروف وفي كل المجالات. وبناء على هذه الخلاصة يمكن قلب الطاولة على رأس الجميع، أو يمكن زج الفاسدين في السجون، أو يمكن الإتيان بالشركات الإيرانية والصينية والروسية في طرفة عين.
لكن الارتطام بالواقع يُظهر مصاعب التغيير وأحياناً مستحيلاته. الواقع أكبر وأعمق وأعقد مما تسمح به موارد القدرة العسكرية مهما بدت لصاحبها عظيمة. والإصلاح عملية تاريخية طويلة تتباطأ حيناً وتتسارع حيناً آخر بحسب تراكم شروطها الداخلية والخارجية، ومدى قدرتها على إضرام النيران في غابة الأعراف والتقاليد والقوانين الفاسدة. ما حصل بعد السابع عشر من أكتوبر 2019 أنّ الاهتزاز الشعبي أذاب الجليد عن حوافي الطريق، لكنّه لم يُفسح المجال أمام مجتمع جديد معافى من التضادات الخفية والمعلنة. كان مشهد اللبنانيين عجيباً حقاً. الملايين تلتهب كالبارود لكنها كانت تسير في طريق الهاوية وتتجه إلى المجهول بسرعة قياسية فيما أركان الدولة العميقة يلتذون بشيء من الدراما والكوميديا السوداء على مسرح حافل بالمواد والحُلل والطبّاخين. ومن خلال الشكل الأخير للدولة والسلطة والمجتمع صار على حزب الله أن يتعامل مع أزمة متنوعة في مخاطرها وتحدياتها ومفتوحة على الزمن، لا تنتهي إلا إذا شاء آخرون من لاعبين محليين وإقليميين ودوليين مغادرتها. وبينما كان الناس هائمين في الشوارع تحت وقع موسيقى «ثورية» صاخبة تهتف باسم «نظام جديد وسلطة نزيهة»، كان حزب الله ينبّه هؤلاء «لئلا يصابوا بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين»! وحتى لو لم يكن مهمّاً للبعض مراجعة صحة افتراضات حزب الله في بداية الأزمة والحقائق التي تكشّفت في ما بعد، لكن من المهم أن يضع كلّ من يُلقي أعباء فوق طاقة الحزب على التحمّل أو خارج دائرة مسؤولياته السياسية أو العسكرية تفسيراً منطقياً للقدرات وما هو ممكن وما هو غير ممكن بالنسبة إليه كحركة جهادية تتوخى الدفاع عن لبنان في وجه المعتدين من الخارج، لا باعتباره بديلاً عن الدولة في التنمية وإدارة شؤون المواطنين الحياتية واحتياجاتهم المعيشية. وهذا ليس معناه السقوط في مهاوي التبرير بل محاولة للفهم. وهذا لا يعني أبداً أن يتخلى حزب الله عن دوره الاجتماعي، بل لتأكيد أنّ الموقف صعب لا يرتبط بتأمين شحنات من المازوت والبنزين فحسب بل كيف يجعل الاقتصاد في خدمة الناس وكيف يمكن توفير الغذاء وخدمات التعليم والصحة خارج قوانين السوق الجائرة وكيف يتم القضاء على الاحتكارات التي جاءت الثروات في معظمها منها. ثم كيف يمكن مجابهة حصار الفقر الذي تقوم به أميركا وسياسات البنك الدولي الذي يُحدث عبر «وصفاته» وأدواته المنتشرة في الطوائف والسلطة تشقّقات خطرة في البنيان الاجتماعي اللبناني. فالمسألة أكبر من تطوّع خيري للعمل الصالح والإحسان وحتى أكبر من نصّ قانوني، فحتى يحصل السلام الاجتماعي الذي يأمله كلّ لبناني نحتاج إلى وقف العدوان الداخلي والخارجي وإعادة بناء النظام والسلطة على أسس وطنية وإنسانية.
وفي الأساس لم تكن هناك مصلحة لدى حزب الله أن يرى وضع الدولة وقد تزعزع. صحيح أنّه لا يحب مشاهدة القوى الأمنية الداخلية تحدّ من نشاط المقاومة ولكنّه لم يفكر يوماً أن يلعب دور الشرطي أو دور المقاول أو أي دور آخر يؤدي إلى إضعاف قدرات الدولة في إدارة شؤون المواطنين ولو لاقى ترحيباً وتقديراً شعبياً من هنا وهناك. نعم قد تبرر الظروف الجديدة التوسّع في خدمة المجتمع لحمايته مما هو أخطر وأسوأ ولكن لا بقصد أن يكون ذلك على حساب صلاحيات الدولة ومصادرة مجالات عملها الرئيسية وإنما من باب التضامن والتكافل، والتخفيف عن الدولة حين لا تجد الموارد الكافية أو حين تقصّر في أداء وظائفها أو تتلكّأ في معالجة مشكلة تمنع الطائفية وحسابات السياسة حلّها. إنّ تدخّل حزب الله في الشؤون الحياتية والإنسانية لرفع الحرمان والتهميش عن الناس المستضعفين ليس محل تساؤل عنده حتى يقال لماذا لا يتدخل؟ وأيضاً إنّه ليس مسألة «متى» بقدر ما هو مسألة «كيف».
كيف يمكن تنمية الريف من دون تعقيدات إدارية وحزبية؟ كيف يمكن شق الطرقات وبناء الجسور ووصل المناطق ببعضها بعضاً من دون حساسيات طائفية؟ كيف يمكن كسر الاحتكارات والكارتيلات من دون أزمة سياسية؟ كيف يمكن بناء معامل الكهرباء والسدود والاستفادة من مياه الأنهر من دون محاصصة وصفقات؟ كيف يمكن الإتيان بالدواء الرخيص من دون عراقيل إدارية ومنافسات بين الزعماء؟ وكيف نذهب لجلب الاستثمارات من الصين وروسيا ونفتح الحدود مع سوريا ونقوّي القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية من دون تدخلات وموانع خارجية؟
ومع أن الكثيرين في بيئة حزب الله يلامسون حقيقة التعقيدات ومع ذلك هناك إلحاح زائد من قبلهم لإحداث تحولات وفرض وقائع، ويرفضون منطق «الواقعية الشديدة» التي تعني عملياً «تراجع الرغبة في التغيير» والحفاظ على التوازنات القائمة بكل سلبياتها.
ولا شكّ أنّ قيادة حزب الله وإن كانت تجد ما يحدث كبيراً لكنها لا يمكن لها أن تندفع إلى مغامرة خطرة دون أن تتخذ ضمانات تأمينها. وترى الحدود الفاصلة بين ما هو اجتماعي معيشي وما هو سياسي أمني حادة وقاطعة، وأي تصرف يمكن أن تختلط فيه النزعات الإنسانية مع النزعات الطائفية، والحياتية مع السياسية، لذلك فضّل الأمين العام في قضية استيراد البنزين والمازوت والدواء الإيراني أن يمرّر عبارة «…وكلها قرارات صعبة تحتاج إلى وقت». وفي حين يطالب جمهور الحزب قيادته أن لا تكون متردّدة بأكثر مما ينبغي ولا بطيئة بأكثر مما هو لازم، يخرج رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين ليؤكّد أنّ الطريق ليس مفتوحاً أمام الحزب ليفعل ما يشاء، ورغم أنّه يقاتل وفريقه على الجبهة الاجتماعية بأكفأ مستوى يعرفه عصر الأحزاب في لبنان، لكن واقعيته تفرض عليه القول «إننا قد لا نملك حلولاً كاملة لكل ما هو في لبنان، لأننا لسنا لوحدنا فيه، وإنما يجب أن نصل مع الآخرين إلى حلول مشتركة، وهذا هو الواقع، وبالتالي، لا يمكن لأحد أن يطالبنا بحلول كاملة لوحدنا». ورداً على سؤال حول تردّد الحزب في التدخل لمعالجة بعض المشكلات في البقاع قال النائب حسين الحاج حسن: «هناك حدود للإمكانات… للصلاحيات… للسلطة». فهل ما صدر من مواقف عن مسؤولين في الحزب يدور مدار الترقّب والحذر وخطورة المبادرة أم العجز الذي تلخصه عبارة «ليس في عربة نصعد إلى السماء!».
في مقابل الذي سقناه، ينفسح المجال أمام طرح آخر من نخبة مقاوِمة خبرت التجارب ولا تنطلق برؤيتها من حالة حماسية تعتريها وإنما من موقف عقلاني ترى فيه أنّ «أمة المقاومة» تعيش بنفاد الصبر وأنّ جرحها لا يستطيع أن ينتظر التفاعلات التاريخية. وإنّ ما يحصل هو عدوان موجّه أصلاً لإصابة قوى المقاومة في لبنان والمنطقة بأعمق الجراح، وأنّ استمرار العدوان سنة بعد سنة مقصود منه أن تدفع هذه القوى وبيئاتها ضريبة المقاومة بالنار والدم وبأعباء مادية ونفسية لا حدود لضغوطها وأثقالها. وأميركا بحصارها وعقوباتها لا تعمق بهذه الأزمة التناقضات الطائفية المعروفة بل تضيف تناقضات جديدة ترفع من مستوى التبرّم والتململ داخل بيئات حليفة للمقاومة يراودها الإغراء لفكّ أي ارتباط بها إن لم تسارع المقاومة إلى تعديل المشهد. ثم إنّ شعار «حيث يجب أن نكون سنكون» وغيره من الشعارات التي أطلقها الأمين العام للحزب شحن آلاف المحازبين والمناصرين بطاقة هائلة وأصبحت هذه الشعارات عقيدة راسخة وثقافة قابلة للانتقال، ما يعني أنّ المقاومة التي تواجه العدوان الخارجي قادرة على أن تواجه العدوان الداخلي وأنّ مثل هذه المواجهة ستكون مدخلاً للتصحيح والتغيير الشامل. هذه النخبة ترى الإمكانية متاحة بالعقل والحسابات لا بالعاطفة والحماسة وأن «الأسبوع هو فصل طويل في عالم السياسة» كما يقول المثل البريطاني.
والسؤال التي تطرحه هذه النخبة هل تملك المقاومة الشجاعة للقيام بهذه العملية، خصوصاً أنّ هناك رغبة شعبية في التغيير تخطّت درجة السخط أو الحلم وهذه حقيقة لا يصحّ لأحد أن يُغمض عنها العيون، ولا يقدر عليها إلا سيد ينجو بالبلد من مهالك جوع أو حرب أهلية لأنّ من لا يتقدم إلى المعركة حاسماً ومنتصراً سيتراجع ليمضي بقية تراجعه في الفقر والحصار!
الأخبار