هل يغيِّر قانون “قيصر” قواعد الصّراع في المنطقة؟
عمر معربوني رئيس تحرير موقع المراقب
كتبتُ هذا المقال لموقع الميادين نت في 20 حزيران / يونيو 2020 وأُعيد نشره لتطابق مضمون التحليل مع الوقائع والمسارات الحالية بما يرتبط بتغير قواعد الصراع في المنطقة .
على الرغم من هول الحملة الإعلامية والنفسية المواكبة للإعلان عن بدء تنفيذ قانون “قيصر”، فإنَّ هذا الترهيب قد يكون مفتاح انقلاب كبير في قواعد الصّراع، لا قواعد الاشتباك فحسب، وهو أمر قد يضع كيان الاحتلال على فالق زلزال الزوال، وقد يكون مفتاح تسوية كبيرة ليس هناك ما يشير إلى إمكانية حصولها، لعدم توفُّر المعطيات والشروط التي تدفع الأمور بهذا الاتجاه، بل على العكس تماماً، فكلّ المعطيات تُشير إلى ارتفاع منسوب التوتر، سواء على مستوى الإدارة الأميركية أو كيان الاحتلال، وخصوصاً أنّنا على مشارف الدخول في محطّتين مفصليتين تتمثّلان بالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة ومغامرة ضمّ الضفّة والأغوار.
إنَّ الإدارة الأميركية خلال حكم ترامب تخلّت نهائياً عن الألاعيب الديبلوماسية، ووضعت حلفاءها قبل أعدائها في دائرة الاستهداف، وحشرت الجميع كرمى لعيون كيان الاحتلال، فالسلطة الفلسطينية ليست قادرة على ابتلاع الإحراج الذي تعانيه، ولم يترك لها ترامب والصهاينة إلا الذهاب نحو التخلي عن مضامين اتفاق أوسلو وملحقاته، وإعلان نفسها دولة تحت الاحتلال، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الملك الأردني الذي لا يستطيع تجاوز خطوة ضمّ الأغوار، إذ بدأ بالتلويح بوقف العمل باتفاقية وادي عربة، لإدراكه أنّ عملية الضمّ هي الخطوة الأولى التي ستكون مستقبلاً مقدّمة نهاية المملكة الأردنية، مع خطورة ذلك على بقاء المملكة وتحوّلها إلى وطن بديل للفلسطينيين.
بالنسبة إلى قانون “قيصر”، فإن أهدافه تبدو واضحة ومعلنة، فالأميركي لا يُخفي شيئاً، ويجاهر بمناورة مكشوفة تعتمد قاعدة العصا والجزرة، لجهة إعلانه أنّه لا يريد تغيير النظام في سوريا، بل تغيير سلوكه، وهي عبارة باتت ممجوجة، لا بل غبية، لا تتناسب مع سلوك النظام الأميركي نفسه من مغامراته في كوريا وفييتنام إلى يومنا هذا، فالذين وضعوا القانون تقصّدوا تضمينه هوامش مدّ يد “إيجابية” مشروطة بالتراجع عن تنفيذ العقوبات، إذا ما استجابت سوريا للإملاءات الأميركية، وهو ما يدلّ على تكرار سوء تقدير الموقف لدى الأميركي الذي يجترّ إملاءاته منذ الثمانينيات وحتى اللحظة، من دون أن تؤدي عقوباته إلى حصول تبدل في الموقف السوري، مع ضرورة توضيح مسألة بغاية الأهمية، وهي أن العقوبات الأميركية تزامنت وتتزامن دائماً مع دخول سوريا المواجهة تلو المواجهة مع الجماعات الإسلاموية المتشددة “الإخوانية والسلفية والوهابية”، لا بل دخول أميركا على خط الدعم المباشر لهذه الجماعات الإرهابية منذ الثمانينيات وحتى يومنا هذا، واعتماد هذه الجماعات كأدوات تدمير وتطويع معاً، مع الاعتراف بأن أميركا استطاعت أن تُلحق بسوريا خراباً ودماراً كبيرين في البنيتين الاقتصادية والمالية.
وفي مقاربة سريعة لاعتماد الإدارة الأميركية سلاح العقوبات، من الواضح أنّ الأمر لا يقتصر على أعداء أميركا، بل يشمل حلفاءها أيضاً، سواء بما يرتبط بتركيا أو حتى بالأوروبيين الذين يقعون دوماً في شباك التّهديدات الأميركيّة.
تأتي العقوبات الأميركية هذه المرة في ظروف مختلفة عن المراحل السابقة، إذ تعيش المنطقة مرحلة التحولات الكبرى والمتغيرات الكبيرة في موازين القوى، بحيث بات واقعياً القول إنّ استمرار الهيمنة الأميركية لم يعد قدراً محتوماً، وإنّ الواقعية تفرض التحدث عما بقي من تأثير أميركي، وخصوصاً في الميدان العسكري، مع ضرورة الإشارة إلى قاعدة أساسية من قواعد الصراع، وهي، في رأيي، المدخل الأهم لتوصيف الوضع الحالي، وأعني بها اضطرار الإدارة الأميركية إلى تغيير آليات المواجهة، من الضغوط السياسية عبر العزل في الثمانينيات والتسعينيات، والانتقال في العقدين الأخيرين إلى الإخضاع بالجيوش، ومن ثم الانتقال إلى استعمال الجماعات الإرهابية للتدمير والتفتيت من الداخل، ومن ثم العودة إلى استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح رئيسي بعد فشل الآليات السابقة، وهذا يعني في العنوان العريض أنّه عندما تُجبر قوى المقاومة في المنطقة الأميركيين على تغيير آلياتهم، فهذا يعني أنهم في حالة تراجع يقابلها تقدم كبير لقوى المقاومة.
وهنا، أودّ أن أعطي أمثلة واقعية وسريعة لمسار الصراع في المنطقة من اليمن الذي دخل السنة الخامسة للصراع، ولم تستطع فيه أميركا وقوى التحالف السعودي أن تحقق أهدافها، لا بل انتقلت المواجهة هناك إلى مرحلة الضربات الاستراتيجية للعمق السعودي والإماراتي، والتي تستهدف المنشآت العسكرية والاقتصادية على السواء، مع تقدم ملحوظ في دخول قوى المقاومة اليمنية مرحلة تطويع الجغرافيا الحيوية واستعادة السيطرة عليها.
في العراق، تبدو الأمور مختلفة عما أراد لها الأميركيّ أن تكون، فلم تستطع أميركا أن تحول هذا البلد، ورغم الانقسام الكبير، إلى قاعدة ارتكاز وانطلاق ثابتة، وباتت فيه موازين القوى متقاربة لناحية السيطرة والنفوذ بين قوى مقاومة للوجود الأميركي وقوى مناهضة له، وهو أمر يندرج، رغم هذا الانقسام، ضمن البعد الإيجابي المرتبط بالتحولات.
في سوريا، وهي المستهدف الرئيسي بقانون “قيصر”، يمكننا التفصيل أكثر في شكل ومضمون الآليات التي أُجبر الأميركي على اعتمادها، ويمكن اختصارها بالمراحل التالية:
1- اعتمدت أميركا في بداية الهجمة تطبيقاً موسّعاً وميدانياً للبروفات التي حصلت في تونس وليبيا ومصر، واعتمدت أكثر على النموذج الليبي، حيث تمّ اعتماد المناطق الحدودية في درعا (الجنوب)، وتل كلخ والزبداني (الحدود الشرقية والشمالية مع لبنان)، وجسر الشغور وأرياف حلب (الحدود مع تركيا)، ودير الزور والبوكمال (الحدود مع العراق)، والانتقال تدريجياً إلى القلب (حمص)، كبؤر مواجهة مع الدولة، تمثلت بالتظاهرات والاحتجاجات التي رفعت فيها شعارات معادية للمقاومة منذ اللحظة الأولى، وهو الأمر الذي نقل الأمور سريعاً إلى العمل العسكري.
2- انتقال الأميركيين سريعاً إلى تنفيذ مضامين الخطة التي سمّيت بـ”الخطة الرابعة”، وتقضي بربط القلمون بحرمون، وهو الشريط الذي اعتقد الأميركي أنّه بالسيطرة عليه يمكن إسقاط دمشق (قلب الدولة السياسي) وحمص (قلب الدولة الجغرافي)، وهو ما انتهى باستعادة الدولة السورية السيطرة عليه سريعاً، وأسس لكل المعارك اللاحقة، وصولاً إلى المرحلة الحالية، بعد انتقال الأميركي إلى “خطة القوس والطوق” من سفوح جبل حرمون، مروراً بدرعا والحدود الشرقية مع الأردن عبر معبر التنف، وصولاً إلى كامل الحدود مع العراق، لتحقيق عزل سوريا عن العراق، ومنع تشكّل خط الإمداد الاستراتيجي من طهران إلى لبنان، وهو الخط الذي لا تزال أميركا تطمح إلى تقطيعه الآن عبر الضغوط الاقتصادية.
أما في لبنان وغزّة، ورغم أنَّ الجبهة فيهما تشهد حالة استقرار ميداني، فإنها باتت الجبهة الأكثر خطراً على الكيان الصهيوني، رغم تشابه الوضعين اللبناني والفلسطيني لناحية الانقسام مع الوضع العراقي.
لا شكَّ في أنَّ اللافت في الردود كان ما أدلى به السيد حسن نصرالله في خطابه الأخطر والأهم، والذي بيّن فيه معادلة هي الأخطر، حيث لمّح ولم يوضح، وترك الأمر خاضعاً لمئات التحليلات الصديقة والمعادية، رغم وضوح العنوان، ورسم معادلة قلب قواعد الصراع، وليس مجرد التغيير في قواعد الاشتباك، عندما قال: “لن نسلّم سلاحنا، ولن نجوع، ولن نسمح بأن تقتلنا، لا بالسّلاح ولا بالجوع، لا بل نحن سنقتلك”، وردَّدها 3 مرات.
وإن كنا على معرفة مع غيرنا بما سيشكله القانون الأميركي من ضرر، إلا أنه فتح الأبواب على مصاريعها لتكوين جبهة مواجهة اقتصادية قد تتشكَّل ملامحها في لبنان، عبر اعتماد الحكومة خططاً للاتجاه شرقاً بعد وصول المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى طريق مسدود، وهو ما بدأت تظهر ملامحه، بموازاة تفعيل استثنائي لبنى الإنتاج في سوريا، ومضاعفة حجم المساعدات الروسية والإيرانية، ما يعني أن قانون “قيصر” يمكن أن يتحول إلى سلاح مضاد على واضعيه، إذا ما أحسنت قوى المقاومة الاستثمار في الانتصارات العسكرية الكبيرة، وتحويل التهديدات إلى فرص ستكون بداية التملّص من الهيمنة الأميركية في المنطقة كلّها.