العميد الركن د . امين حطيط | استاذ جامعي وباحث إستراتيجي
لم يشهد لبنان حالة من التخبّط والتمادي بارتكاب الأخطاء في معالجة ملفاته كما شهد في ملف الحدود البحرية وترسيمها وتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة له، نقول هذا على رغم ما هو «مألوف» في لبنان من إهمال وتقصير وأحياناً خفة في مقاربة القضايا الوطنية وتداولها أو معالجتها،
وقد وصل هذا الملف (ترسيم الحدود البحرية) الآن إلى نقطة خطرة تنذر في حال استمرار التجاهل والمكابرة فيها والإحجام عن المعالجة والتصدي الجادّ لها تنذر بضياع مساحة 2290 كلم2 (أي ما يزيد على خمس مساحة لبنان) من المنطقة الاقتصادية الخالصة، حيث باشرت «إسرائيل» بوضع اليد عليها بعد قطعها لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ورفضها حتى مجرد النقاش حول الطرح اللبناني المدعوم بالحجج والأدلة القانونية والتوثيقية.
وتجنباً للإطالة واجترار الكلام الذي سبق وعرضناه أكثر من مرة وتناولنا فيه أخطاء ارتكبها لبنان في بدء مقاربته للملف ومحادثاته مع قبرص التي أفضت إلى تعيين خاطئ لموقع النقطة (1) ثم للخطأ المرتكب في تصحيح الخطأ الأول واعتماد النقطة (23) الخطأ الذي كرّس رسمياً بالمرسوم 6433/2011 وهو المرسوم الذي أودع في الأمم المتحدة ليشكل تحديد لبنان لحدوده البحرية، فإنّ المشكلة الآن تتركز في مسألة تصحيح هذا الخطأ عبر سحب المرسوم الخطأ وأبداله بمرسوم جديد يتضمّن التحديد الصحيح لحدود المنطقة الاقتصادية كما حدّدتها قيادة الجيش اللبناني بالاستناد إلى اتفاقية بوليه ـ نيوكمب واتفاقية الهدنة وقانون البحار، وهي الوثائق المرجعية الوحيدة التي يعمل بها في هذا المقام والتي تقود في تطبيقها إلى اعتماد النقطة (29) بدلاً من النقطة (1) الخطأ وبدلاً من النقطة (23) المصححة خطأً أيضاً.
لقد أعدّت قيادة الجيش اللبناني الدراسة التفصيلية المعمّقة حول الموضوع وطلبت من المراجع المختصة مراراً وتكراراً تصحيح الوضع وتعديل المرسوم 6433\2011 وألحّت بالطلب شفهياً وخطياً على ذلك، وكان آخر طلباتها في هذا الشأن بتاريخ 26\8\2021 حيث وجهت كتابها إلى وزارة الدفاع التي أحالته إلى وزارة الخارجية والمتضمّن طلباً صريحاً بـ «سحب المرسوم 6433/2011 من الدوائر المختصة لدى الأمم المتحدة لما يشوبه من عيوب فنية وإدارية وقانونية يؤدي استمرارها إلى فقدان لبنان حقه في مساحة لا تقلّ عن 1430 كلم2. لكن وللأسف لم يستجب حتى الآن لطلب قيادة الجيش وبقي مشروع التعديل متعثراً، وبقي الوضع القانوني للحدود البحرية بنظر الأمم المتحدة هو ما ينص عليه المرسوم 6433\2011 الخطأ والخريطة المرفقة به.
لقد استغلت «إسرائيل» هذه الأخطاء وتعثر لبنان في معالجة أموره تلك وأقدمت في حزيران/ 2011 على تلزيم التنقيب عن النفط في خمسة حقول إلى الشركة الأميركية «إنرجي» ومجموعتها، ومنها حقل «كاريش» الواقع شمال الخط (29) أي داخل المنطقة التي يعتبرها لبنان من منطقته الاقتصادية، وفي الأسبوع المنصرم أعلنت «إسرائيل» بأن الشركة الملتزمة بدأت بأعمال التنقيب في تلك المنطقة.
وهنا نجد مؤسفاً ومضحكاً مبكياً الموقف اللبناني حيال التصرف «الإسرائيلي» الذي يعدّ بكلّ وضوح انتهاكاً واعتداءً على لبنان وحقوقه، إذ بدل أن يسارع المسؤول السياسي في لبنان إلى تلبية طلب قيادة الجيش ويسحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة ثم يودعها مرسوماً صحيحاً يأخذ بتحديد الجيش اللبناني للحدود البحرية، بدل هذا قام بتوجيه كتاب من وزارة الخارجية إلى الأمم المتحدة يطلب فيه «التحقق من قيام إسرائيل بالتنقيب في منطقة متنازع عليها مع لبنان».
إنّ طلب لبنان هذا مع الإحجام عن سحب المرسوم 6433 من الأمم المتحدة ثم تفويض الأمم المتحدة حصرياً بالتحقق عما إذا وقع انتهاك أم لا، يعني بكل بساطة تمسك لبنان بالخط (23) وعدم اعتبار ما يجري جنوب هذا الخط انتهاكاً أيّ الإقرار الصريح بالتنازل عن مساحة الـ 1430 كلم2 (المساحة بين خط 23 وخط 29) وهي أمر يعدّ تفريطاً بحقوق وطنية سيادية لا بل ويمكن وصفه بكلّ صراحة بأنه خيانة وطنية. وهنا نسأل:
أ ـ لماذا لم تطلب الحكومة من الجيش اللبناني أن يتحقق من الانتهاك المظنون أو تشركه به؟
ب ـ لماذا لم تطلب الحكومة عملاً مشتركاً من الأمم المتحدة والجيش في الحدّ الأدنى؟
ج ـ ألا يعلم من طلب من الأمم المتحدة التحقق من الأمر، أنّ هذه المنظمة ستتخذ من المرسوم اللبناني الموجود لديها أساساً للتحقق ما يعني أنها ستتخذ من الخط 23 معياراً للقياس وهو الخط القانوني الموجود لديها بقرار لبناني؟
د ـ ألا يعلم من طلب هذا التحقق أن جواب الأمم المتحدة سيكون نفياً للانتهاك لأنّ العمل الصهيوني لم يتجاوز الخط 23 ومع هذا النفي يسقط حقّ لبنان باللجوء إلى أيّ وسيلة للدفاع عن حقوقه طالما انتفى انتهاكها؟
في مقاربة هذه الأسئلة وما تستدعيه من إجابات نرى أن التصرف اللبناني شكل خدمة ثمينة لـ «إسرائيل» بقصد أو عن غير قصد، وهو فعلياً لا يعدو في تفسيره أمراً من أمرين: إما أنّ هناك خفة وجهلاً وتفريطاً غير مقصود بالحقوق الوطنية وإفراطاً في غير محله بالثقة بالأمم المتحدة، هذا مع حسن الظنّ، أو أنّ هناك صفقة ومؤامرة ينفذها المسؤول في لبنان استجابة للإملاءات الأميركية لمصلحة «إسرائيل» على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، ونرجو أن لا يكون الأمر كذلك.
أمام هذا الواقع وتجنباً للكارثة الوطنية المتمثلة بضياع ما بين 1430 كلم2 2290 كلم2 من المنطقة الاقتصادية اللبنانية التي تحاول «إسرائيل» أن تضع يدها عليها بقوة الأمر الواقع نرى أن يبادر لبنان ومن دون إبطاء إلى اتخاذ الإجراءات التالية:
ـ سحب المرسوم 6433 / 2011 من الأمم المتحدة وإبلاغها كما وإبلاغ الولايات المتحدة الأميركية بأنّ لبنان بصدد إصدار مرسوم جديد يعتمد الخط 29 الذي طرحه الوفد اللبناني في الناقورة في المفاوضات غير المباشرة التي بدأت في العام 2020 برعاية أميركية أممية.
ـ التأكيد للأمم المتحدة والولايات المتحدة انّ المنطقة شمال الخط 29 وجنوب والخط 1 والتي تبلغ مساحتها 2290 كلم2 هي منطقة لبنانية متنازع عليها مع العدو «الإسرائيلي» ينبغي عدم العبث بها حتى فض النزاع مع احتفاظ لبنان بحقه في اللجوء إلى أي وسيلة متاحة للدفاع عنها لحماية حقوقه.
ـ تعديل المرسوم 6433 / 2011 في أول جلسة لمجلس الوزراء تعقد بعد نيل الحكومة الثقة وإيداع المرسوم المصحح الجديد الدوائر المختصة لدى الأمم المتحدة.
ـ عدم متابعة الطلب المرفوع إلى الأمم المتحدة للتحقق من الانتهاك «الإسرائيلي» لحدود لبنان البحرية في ظل الوضع القائم لأنّ ذلك إنْ حصل يعني الإقرار بأنّ سقف المطالب اللبنانية هو الخط 23، وفي هذا تنازل مؤكد عن مساحة 1430 كلم2.
وإذا رغب لبنان في إشراك الأمم المتحدة بالأمر فعليه أولاً أن يعدّل المرسوم 6433 / 2011 ويتمسك بالخط 29 ثم يطلب من الأمم المتحدة مؤازرة الجيش اللبناني في عملية التحقق، وأؤكد هنا على محورية ومركزية عمل الجيش في هذا الشأن. أما الاكتفاء من الأمر بما تمّ حتى الآن فإنه يعني التنازل بكل تأكيد عن حق وطني لبناني، ما يقود إلى طرح السؤال المر: «هل خشيَ مسؤولون في لبنان على مصالحهم وحاذروا إغضاب أميركا وتخلوا عن الحقوق اللبنانية، ثم قاموا باستعراض كلامي للتظاهر بحرصهم عليها؟»
نرجو أن لا نصل إلى طرح هذا السؤال!؟
البناء