هل تؤسس إحتجاجات طرابلس لدفرسوار تركي ؟
عمر معربوني | باحث لبناني في الشؤون السياسية والعسكرية .
بداية سأتجاوز العنوان الذي وضعته لمقالي واؤجل الخوض فيه الى متن المقالة لأنني اعتبر انّه من المُجحف الكلام عن طرابلس في الأبعاد السياسية والأمنية قبل توصيف حال المدينة وابنائها بواقعية وموضوعية في البعد الاجتماعي – الاقتصادي ، وخصوصاً حال المدينة هذه الأيام وما فيها من مآسي وفوضى .
مدفوعين من الفقر وخيبة الأمل إختار المحتجّون في مدينة طرابلس أن يتنفسوا الغاز المسيّل للدموع ، واختاروا طوعاً الوقوع في براثن فيروس كورونا على أن يُنهكهم الفقر ويقضي على ما تبقى لهم من أمل في التغلب على مصاعب الحياة وإهمال الدولة لهم على مرّ العهود .
على مدى ثلاثة أيام اتابع كغيري سير الإحتجاجات في المناطق اللبنانية كافّة والتي كان لمدينة طرابلس حصّة الأسد منها رغم انّ ما تعاني منه طرابلس تعاني منه باقي المناطق اللبنانية .
وكما أنّ طرابلس هي مدينة الفقراء فهي ايضاً مدينة المليارديرات ، ففي تقرير ل فلاديمير هلاسني، الإقتصادي في المفوضية الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة: ” أنّ لبنان لديه أعلى كثافة في الثروة ولديه أكبر كثافة من أصحاب المليارات في العالم ” .
حيث يملك عشرة بالمئة من الأثرياء نسبة 71% من ثروة البلاد ، وذلك حسب المفوضية الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا والتي قدرت في الشهر الماضي تصاعدا نسبيا في مستويات الفقر من 29% عام 2019 إلى 55% في 2020 .
وإن كانت النسبة قد وصلت الى 55% في العام 2020 فهي مرشّحة ان تصل الى 85 % في نهاية العام 2021 .
وبحسب مؤشر ” جيني ” لعدم المساواة يأتي لبنان في المرتبة الثانية بعد المملكة السعودية وهي مرتبة مزرية ، وعندما نتحدث عن الظلم الاجتماعي وعدم المساواة في لبنان فبالتأكيد تقع مدينة طرابلس على رأس المدن والبلدات التي تعاني مصاعب جمّة .
وايضاً عندما نتحدث عن الثروة ففي نفس المدينة عدد من الأثرياء تمّ تصنيفهم من بين عشرات الأثرياء الأوائل على مستوى العالم العربي ومن بين المئات على مستوى العالم .
واضافة الى ما تقدّم تعاني طرابلس من تراجع في التجارة وصل الى 92% وهو رقم مخيف يؤسس مع العوامل الأخرى الى دفع الأمور نحو الفوضى وتالياً نحو التوحُّش وهو ما يخشاه الحريصون والخائفون معاً من انزلاق الأمور نحو الهاوية ونحو المشهد الكارثي المحتوم .
عوامل أخرى ساهمت في وصول المدينة الى مستوى غير مسبوق من الفقر والعوز ، وهي التاريخ الطويل للزبائنية السياسية التي كان للحريرية السياسية باع طويل في ترسيخها والإستغلال فيها لتحقيق أهداف سياسية داخلية وخارجية ، تتجلّى حالياً في الصراع الخفّي تارة والعلني تارة أخرى بين الأخوة – الأعداء وما بينهما من قوى انتجتها الحريرية بغير رضاها لأسباب كثيرة سنأتي على ذكرها وتفصيلها في مقالات لاحقة .
على مدى سنوات طويلة عاشت طرابلس كافّة اشكال الفوضى والإستغلال السياسي وكان فقراؤها دوماً حطب الصراعات ووقودها وضحاياها عبر سلسلة من الأحداث تغيّرت فيها بشكل دراماتيكي التحالفات والإصطفافات لترسي حالياً على متغيرات كبيرة ومشهد تختلط فيه المآرب الداخلية بالخارجية .
في الشكل : ينقسم الخبراء حول توصيف ما يحصل في الشارع اللبناني بين فريق يعتبر ان ما يحصل من احتجاجات داخلي صرف ولا تدخلات خارجية فيه ، وفريق يعتبر ان العامل الخارجي هو العامل الأساسي في كل ما يحصل منذ 17 تشرين 2019 وحتى اللحظة سواء عبر إدارة التحركات وتوجيهها او صناعة الأزمة بكليتها التي افرزت مجمل المسارات ومن ضمنها الأزمة الاقتصادية – الإجتماعية التي باتت تنبيء بكارثة كبيرة .
وان كنتُ لا أُنكر المأساة التي يعيشها اللبنانييون عطفاً على المقدمة في توصيف واقعهم ، الا اني من الفريق الذي يعتقد بقوة التدخلات الخارجية والإستغلال السياسي بحسب انتماء كل منطقة وتاريخها في الانتساب السياسي والمذهبي .
في طرابلس لم يعد خافياً انّ الأصابع التركية – الريفية – الأخوانية ( الجماعة الإسلامية ) باتت أكثر نفوذاً وتحلّ تدريجياً وبتصاعد لافت محلّ الأصابع السعودية – الحريرية وهو مسار يترسخ بقوّة بسبب خيبة الأمل التي يعانيها الطرابلسيون ومعهم الغالبية في شمال لبنان وكذلك في البقاعين الأوسط والغربي من الحريرية ومن تحَالف معها من نواب طرابلس وهم ذاتهم كبار اثرياء لبنان والتي بحسب هذه الأغلبية لم تكن أمينة على مصالحهم وأحلامهم .
امّا لماذا الخشية من دفرسوار تركي في لبنان ولماذا تهتّم تركيا هذا الاهتمام الكبير بلبنان ؟
والجواب انه ببساطة أمر يدخل في صلب الإستراتيجيا التركية بمواجهة التحالف السعودي – الإماراتي ، حيث تولي تركيا للملف اللبناني أهمية كبيرة ترتبط بأسباب دينية وتاريخية وجيوسياسية بهدف حماية المصالح التركية في منطقة حوض المتوسط في محاكاة لأحلام قيام السلطنة مرّة جديدة ، وكما هو معروف فإن تركيا اهتمت منذ زمن بالأقلية التركمانية المتواجدة في الشمال والبقاع واعادت وصل العلاقة معها عبر الكثير من الخدمات التنموية وعبر المنح الجامعية ومنح الجنسية التركية لها ، إضافة الى إحياء العلاقات مع عدد من العائلات اللبنانية ذات الجذور التركية ، ناهيك عن ما قامت به تركيا من خلال بناء المستشفى التركي في صيدا والعمل على انشاء جامعة في عكار وغيرها من المشاريع التي تطمح تركيا للتواجد من خلالها في لبنان لبسط نفوذها وتقويته .
كما لا يخفى على أحد ان تركيا ترتبط بعدد من فعاليات المدينة ومنهم اللواء اشرف ريفي وقيادات الجماعة الإسلامية التي تُعتبر طرابلس احد معاقلها الأساسية لأسباب عقائدية مع الجماعة الإسلامية ومصلحية مع اللواء ريفي .
إضافة الى ذلك ترتبط تركيا بطرابلس عبر التجارة البحرية بين مرفأي مرسين وطرابلس والتي تعمل تركيا على الوصول الى ربط المرفأين بشكل أكبر وهو ما ظهر جليّاً بعد انفجار مرفأ بيروت وإبداء تركيا رغبتها في زيادة فرص استثمارها بإعادة اعمار مرفأ بيروت وما تضرر بسببه .
عدا عن ذلك فإن أمرين آخرين ترغب تركيا بتحقيقهما من خلال تقوية نفوذها في لبنان :
– التواجد بفعالية على الحدود الشمالية البحرية وعلى الحدود الشمالية الشرقية البرية لسورية بما يؤمن لها موطيء قدم يمكنها من خلاله زيادة منسوب الضغط في أي مفاوضات قادمة على مستوى المنطقة ، خصوصاً ان القيادة التركية تُدرك ان المواجهة في المنطقة باتت تقترب من النهاية ولا بد لها من تحقيق خطوات اكبر في النفوذ الجيوسياسي لتركيا على قاعدة التواجد في الجغرافيا والتأثير في الديموغرافيا .
– التواجد في لبنان ايضاً يمكِّن تركيا من القبض على أوراق قوّة تستطيع من خلالها مساومة الفرنسيين الذين يعتبرون لبنان حتى اللحظة منطقة نفوذ لهم على الملف الليبي وغاز شرق المتوسط حيث شهدنا في المرحلة الأخيرة مناوشات سياسية بين الاتراك والفرنسيين حول الملفين .
– كما يعتبر الأتراك ان تقوية نفوذهم في لبنان لن تعترضه موانع جدية من اميركا وكيان العدو اذا ما تمّ تقديم النفوذ التركي في لبنان على انه عامل حد وتقليل من الدور الإيراني في لبنان .
في الختام لا بد من التأكيد ان الأتراك سيسعون من خلال لبنان الى تعزيز موقعهم في المنافسة على قيادة العالم الإسلامي بمواجهة السعودية وهو ما يمكن ان يجعل الأتراك غير مهتمين بالأساليب التي يمكنهم من خلالها بسط نفوذهم حتى ولو كان ذلك عبر الإستثمار في الفوضى التي يعتقد الأتراك انه بمقدورهم ضبط ايقاعها وحجمها وهو الخطأ المميت الذي يمكن ان يأتي بالوبال اذا ما تفلتت الأمور على لبنان وعلى المنطقة جمعاء .