العميد الركن الياس فرحات | باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
تتماهى كازاخستان مع روسيا ثقافة وتقاليد ودموغرافيا حيث بلغت لغاية 1992 نسبة السكان من العرق الروسي 40% وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي غادرت اعداد كبيرة من الروس جمهوريات أسيا الوسطى ما عدا كازاخستان التي بقي فيها أقل من 20% من السكان من أصل روسي. ومنذ استقلالها في كانون الأول/ديسمبر 1991 عن الإتحاد السوفياتي السابق، ظلّت كازاخستان تحت حكم نور سلطان نزارباييف الذي كان رئيسا لجمهورية كازاخستان السوفياتية لمدة عشر سنوات. حكم نزارباييف تلك البلاد بقبضة حديدية ونقل العاصمة من الما آتا الى مدينة جديدة في الشمال سماها أستانة، اي العاصمة باللغة التركية الكازاخية (أو القازاقية)، وذلك في اشارة واضحة الى ان كازاخستان التي لديها حدود برية مع روسيا بطول 6467 كيلومتراً ستبقى مستقلة عن جارتها روسيا.
رزق نزارباييف بابنتين ولم يرزق بذكور وعندما تقدم في السن اعتبر مما اصاب جارته اوزبكستان التي مات رئيسها اسلام كريموف تاركا ثلاث بنات ومن دون ذكور فحصلت بلبلة في الخلافة الى ان تم الاتفاق على شوكت ميرزاييف.
استقال نزارباييف في 2019 وسلّم الحكم، حسب الدستور، إلى قاسم تاكييف رئيس مجلس الشيوخ محتفظاً برئاسته لمجلس الامن القومي، وهي سلطة مرجعية في غالبية قرارات الدولة.
كانت اولى قرارات تاكاييف تغيير اسم العاصمة استانة الى نور سلطان اعترافاً بجميل نزارباييف على كازاخستان وتخليداً له وهو الزعيم الذي يسمى باللغة الكازاخية “يلباسي”.
القرار الثاني كان تعيين ابنة نزارباييف الكبرى داريغا رئيسة لمجلس الشيوخ، وهو المنصب الذي تؤول إليه رئاسة البلاد حكماً بعد شغور المنصب سواء بالاستقالة او بالوفاة. بعد فترة وجيزة، اجرى تاكييف انتخابات مبكرة فاز فيها بالرئاسة لخمس سنوات.. واول قرار له كان اقالة داريغا نزارباييف! لم يختف ظل نزارباييف عن المشهد السياسي في البلاد كما ان تاكييف لم يهيمن على ذلك المشهد وهذا ما خلق ضبابية مرجعية في البلاد الغنية بالنفط والغاز والمعادن والواقعة في أورأسيا بين أوروبا وأسيا.
انضوت كازاخستان في منظمة دول الامن الجماعي مع روسيا وبيلاروسيا وارمينيا وطاجكستان وقيرغيزستان.
ينص ميثاق هذه المنظمة على التنسيق الدفاعي والامني بين الدول الاعضاء ويشترط عدم انضمام اي دولة لحلف آخر، علماً أن روسيا في اتفاقية الاستقلال ضمنت بقاء المركز الفضائي في بايكونور حيث تتمركز وكالة الفضاء الروسية ومراكز ابحاث صاروخية وفضائية روسية. تشكل هذه الاحداث جرس انذار كبير لروسيا والصين. يمكن احتواء الوضع في كازاخستان التي لا حضور وازناً فيها للحركات الإسلامية، اما اذا اندلعت احتجاجات في طاجكستان فانها ستعيد شبح الحرب الاهلية التي نشبت عام 1992 بين الاسلاميين والعلمانيين وانتهت بتسوية لصالح العلمانيين برئاسة امام رحمنوف إعتمد نزارباييف خلال توليه السلطة النموذج الليبيرالي واستقدم شركات غربية املاً بان تصبح دولته غنية بفضل حسن استثمار مواردها، وخلال 15 عاما تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لكازاخستان أكثر من 16 مرة، لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر، لا سيما في ضوء إعتماد إقتصاد البلاد على قطاع النفط والغاز (21% حسب أرقام العام 2020) الذي شهدت أسعاره تقلبات كارثية في السنوات السبع الأخيرة. وفي اطار التوازن بين روسيا والغرب، اقام نزارباييف علاقة وثيقة مع تركيا الشريكة في الطورانية واللغة وبعض الثقافة. لم تشكل تركيا بديلا عن روسيا لاسباب جيوسياسية. بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، زار الرئيس التركي تورغوت اوزال دول أسيا الوسطى وسعى لإنشاء إئتلاف تركي طوراني، وفي النهاية اقر اوزال ان التباعد الجغرافي يحول دون تحقيق اهدافه وان القوقاز وبحر قزوين يفصلان تركيا عن هذه الدول وتاليا لا فائدة من هذا المشروع!
اندلعت الاحداث مطلع السنة الجديدة بشكل مفاجئ وسريع رداً على رفع سعر الغاز في ما يشبه ردة الفعل اللبنانية على رفع رسوم تطبيق واتس اب على الهواتف الذكية قبل سنتين ونيف.. لكن إحتجاجات كازاخستان “تكثفت لتصبح شيئاً أكثر أهمية وقابلية للاشتعال: استياء واسع النطاق من الحكومة الاستبدادية الخانقة وانتقاد حاد للفساد المستشري الذي أدى إلى تركز الثروة داخل نخبة سياسية واقتصادية صغيرة”، على حد تعبير دان بيلفسكي، في تقرير نشرته “نيويورك تايمز”. وقد تمكن المحتجون من السيطرة على مطار الم آتا، وهو المطار الاكبر في البلاد وعلى مبانٍ حكومية كما احرقوا ودمروا في مدن اخرى، وكشفوا عجز القوى الامنية عن ضبط الوضع ما حمل الرئيس تاكييف على طلب تدخل عسكري من منطمة دول الامن الجماعي في اتصال مع الرئيس الدوري، وهو رئيس وزراء ارمينيا نيكول باشينيان الذي وافق على الطلب وعلى الفور لبت الطلب روسيا وبيلاروسيا.
وقد صرح تاكييف ان عناصر معادية ومسلحة تلقت تدريبا خارج البلاد هي من تقوم بالهجمات. ثمة إنطباع أن بلداً مثل كازاخستان لا يمكن لإحتجاجات محلية ان تبلغ في وقت قياسي هذا المنسوب العالي من العنف. هل يرقى ما يجري الى مستوى تخطيط وتنفيذ شبيه بما جرى في ايران عام 2019 حين جرت اعمال تخريب وهجمات على مؤسسات في نحو 12 مدينة تمكن “الباسيج” من قمعها ووصولاً إلى اعادة فرض النظام؟
من الواضح ان حزب “نور الوطن” الذي يترأسه نزارباييف بعد استقالته من رئاسة الجمهورية اضحى مثل أغلبية الاحزاب الشيوعية وما أصابها بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي السابق من تشققات وغياب الفاعلية والكاريزماتية. تحول حزب نزارباييف الى بيروقراطية تتيح لمن يدخله تسلق السلطة في البلاد. بالمقابل، انجذب الشباب الكازاخي الى افكار الحرية والديموقراطية بتأثير من الدعاية الغربية وليس مستبعداً وقوع البعض من هؤلاء في شبكة ميليشيوية تديرها شركات امنية خاصة. لا شك ان المتمردين كانوا على درجة عالية من التخطيط والتنظيم وادارة العمليات. ولم يعرف بعد ما اذا كان المعارض الكازاخي الروسي فلاديمير كوزلوف المقيم خارج البلاد يحظى بشعبية منظمة تتيح له تنظيم مثل هذه الاحتجاجات. وليس سراً ان هدف المتمردين هو اسقاط النظام واحلال نظام شبيه بنظام اوكرانيا مكانه، وذلك يخدم اهداف الولايات المتحدة في ارباك روسيا والصين باحلال نظام معادٍ لكل منهما في كازاخستان. هنا يقع هؤلاء سواء أكانت قضيتهم محقة أم عكسها ضحية الجغرافيا، فكازاخستان تتشارك مع كل من روسيا والصين وقيرغيزستان بحدود برية وهي مطلة على بحر قزوين وهو بحيرة كبيرة مقفلة لا تتصل ببحار العالم. لم يسجل اي موقف للرئيس السابق نزارباييف فيما اعلن تاكييف عن إقالة الحكومة وعن توليه رئاسة مجلس الامن القومي بدل نزارباييف، في خطوة أراد من خلالها عزل سلفه من هذا المنصب الحيوي والحساس. تشكل هذه الاحداث جرس انذار كبير لروسيا والصين. يمكن احتواء الوضع في كازاخستان التي لا حضور وازناً فيها للحركات الإسلامية، اما اذا اندلعت احتجاجات في طاجكستان فانها ستعيد شبح الحرب الاهلية التي نشبت عام 1992 بين الاسلاميين والعلمانيين وانتهت بتسوية لصالح العلمانيين برئاسة الرئيس امام رحمنوف. كما ان أوزبكستان تشهد حركات اسلامية سياسية وهي احتضنت الاسلام الممارس حاليا في العالم بكبارها وهم البخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي وغيرهم. هل بدأ ربيع أسيا الوسطى من كازاخستان؟
موقع 180 بوست