روني الفا | كاتب وباحث لبناني
لَم نتخلَّ منذُ فترة طويلة عن محارِم القماش الشخصية التي كانت تقتضي الأناقة الذكوريَّة طَويَها في جيبِة السترَة وإخراجَها عند اللزوم. بِتهذيبٍ يكادُ يُعَلَّمُ في معاهِدِ اللياقَات الإجتماعيّة كان الرّجلُ عندَ الضرورة الأنفيّة العاجِلَة يُشهِرُ سلاحَهُ المطرّز الأطراف ويقوم بالحركة المناسبة مرفَقَة باستدارَة خفيفة عن الحضور.
لم نأنَف يوماً من هذه الموضَة التي كنّا نعتبرها أداةً من أدوات اكتمال الهندام الذكوري البورجوازي. وكانت النسوة تولي إهتمامهنّ بغسلِها غلواً بعيداً عن الملابس الأخرى وتتقنَّ كيَّها وطَويَها وإعادتها إلى جيوب سترات أزواجهنّ بالعناية نفسها التي كانت تُخَصَّصُ بها بقية ملابس أهل البيت.
دخلت علينا محارِمِ السيليكون أو المناديل المنتوشَة من علبٍ كرتونيَّة مستطيلة أو مربَّعَة مع دخول عصر مجتمع الإستهلاك. ماتت محارم القماش وانتشرت بعدها المحارم الإصطناعيَّة. لم يكن حديث وزير الشؤون الإجتماعيّة الجديد على خطأ حينما صرّح خلال مقابلة تلفزيونيّة قديمة أن خِرَق الأطفال أيضاً كانت رائجة عند اللبنانيين قبل تصنيع العبوات التي باتت تحتضن أقفية أولادنا منذ حوالي أربعين سنة.
قبل ذلك الزمان كانت الأمهات يستقبلن الهدايا الصغيرة التي يقدّمها الأطفال كمفاجآت سارة تتيح لهنَّ التساؤل أحياناً عن مغزى لون الهدايا وتماسكها ويعدّلن في أطعمة صغارهنَّ على هذا الأساس. نحن من جيل حفّاضات القماش وكانت هدايانا الصغيرة جزءاً من نقاش الأمهات مع جيرانهنَّ.
ما لم يتنبّه له المتندّرون على كلام الوزير الجديد الذي لا أعرف عنه شيئاً هو أنهم غفلوا بأننا ندخل اليوم عصر السلوك الأوروبي الذي تعوّد عليه المواطنون في الغرب منذ عشرات السنين. لا يعني ذلك على الإطلاق المناداة بالعودة إلى هذه العادة بقدر ما يعني بأننا كنّا نعيش في فقاعة إقتصاديَّة وبحبوحة مزوّرة تعكس عادات إستهلاك متوحشة.
كنا نتندّر على الفرنسيين والبريطانيين حينما كانوا يتبضَّعون خضارهم بالقطعة. خيارة واحدة وبندورة واحدة والفجل بالحبّة والموز أيضاً وسواها من الخضار والفاكهة. هؤلاء عرفوا منذ عقود فائدة الإدخار والإستهلاك بحسب الحاجة. نحن كنّا منذ وقت قصير لا نعير إهتماماً يُذكَر للتبضّع الرشيد. نشتري بالصناديق ونرمي أكثر من نصف الكميات التي تكسد إهتراءً في براداتنا.
أدخَلنا عصر القروض المصرفية السّهلة في غيبوبة إستهلاكيّة. كانت المصارف تقرضنا لنصرف بوحشيّة وترف على ألف خدمة دولوكس كان حتى أغنياء العالم لا يقدمون عليها. بنوك تقرض زوجاتنا للبوتوكس وعمليات التجميل. كنّا نبدّل سياراتنا كل سنتين ونسافر لنتشمّس في بودروم وآيا نابا مرّتين سنويّاً بتسهيلات من البنوك. كان ذلك طبعاً قبل تعثّرها وقبل احتجازها لأموالنا فيها.
نعيش اليوم زمن الإستهلاك الحقيقي وما يغيظنا هو أننا فقدنا ما تمَّ تَعويدُنا عليه. أطفال في المواطنية تعودنا على الغنج والدلال وعلى اعتبار أنفسنا محظيين وخارج منظومة العالم. حين ذكَّرَنا هكتور الحجار بواقعنا هذا واجهناه بسيلٍ من الشتائِم والتهكّم.
شئنا أم أبينا، نعود طائعين ومختارين إلى زمن الإقتصاد الحقيقي مع تقصير فاضح دام أكثر من ثلاثين سنة تقاعست فيه الدولة عن تعويضنا بخدمات تسدّ عجزنا عن الإكتفاء الذاتي. نقل عام حديث ونظام تأمين ضدّ البَطالة وضمان صحّي فعّال. لو تمّ كلّ ذلك لكنّا انتظمنا مثل باقي شعوب العالم. مشكلتنا في الحقيقة تكمن في أننا نعتبر أنفسنا شعباً مختاراً. نحاسب حتى الله إذا قصَّر في خدمتنا وفي تأمين نزواتنا الصّغيرَة. مع هكتور الحجار في كلّ ما قاله بفارق مهم هو أنه مثلنا نحن ورث دولة عرجاء صمّاء وبَكماء.
لو كان هناك شركة إحصاء مهتمّة في رصد عدد العائلات التي عادت إلى فوطة القماش لكانت صدمتنا الأرقام خصوصاً في الأطراف. شعبنا للأسف على ما يؤكده غوستاف لو بون لا يختلف عن سيكولوجية الجماهير في كل العالم: يتحرّك بالغريزة ويضمر أحقاداً لا مبرر منطقي لها ويسقطها على أول من يواجهه بالحقيقية. هذا بالتحديد فداحة التنمرّ الذي يتعرّض له هكتور الحجار.