بيار عطالله | كاتب لبناني
مشكلة اللبنانيين عموماً انهم لا يفاوضون ولا مكان للنقاش معهم عندما يكونون اقوياء، اما عندما يستشعرون ضعفاً او وهناً وغالباً نتيجة مسارهم وتصرفاتهم فأنهم يقفزون الى خلاصات ومعادلات صعبة، ليس اقلها محاولات تركيب خيارات ومشاريع تقيهم الم الشعور بالهزيمة والضعف، وهذا هو حال المنادين بخيار الفيديرالية نظاماً جديداً للبنان على خلفية فشل نظام الصيغة والعيش المشترك والاحباطات والاحتلالات المتكررة، والسقوط المفجع للطبقة السياسية الحاكمة وعلى كافة المستويات وخصوصاً من العام 1990 تاريخ فرض تطبيق اتفاق الطائف بالقوة السورية الغاشمة على اللبنانيين.
في ما يلي جملة افكار وملاحظات، علها تسهم في توضيح صورة موقف فئة من اللبنانيين والمسيحيين خصوصاً ممن يعتبرون ان ظروف الفيديرالية لم تنضج بعد.
البند الاول: يصب المنادون بالفيدرالية جام غضبهم على البطريرك الياس الحويك الاب الراعي للكيان اللبناني، ويتهمونه بإرتكاب “خطأ تاريخي” في المطالبة بضم اقضية الاطراف البعيدة عن جبل لبنان الى الكيان اللبناني، والتفريط تالياً بالارجحية المسيحية التي كانت في جبل لبنان (المتصرفية) والتأسيس استطراداً لكل مشكلات لبنان اللاحقة وصولاً الى الوضع الحالي الذي نعاني منه في ظل حكم الشيعية السياسية (تحالف الرئيس عون والشيعية السياسية المقاتلة).
ويتناسى من ينتقد الحويك ان الرجل التاريخي الذي عاش مأساة الجوع وحصار المتصرفية من العثمانيين الاتراك ووفاة اكثر من نصف مليون لبناني خلال الحرب العالمية الاولى، كان مدركاً أن لا حياة للجبل مستقبلاً من دون سهل البقاع وخيراته، ومن دون صور وصيدا والجنوب وما تشكله من بوابات على فلسطين (قبل قيام دولة اسرائيل) وجنوب سوريا وما مثلته وتمثله فلسطين وسوريا من مرافق اقتصادية – اجتماعية – تجارية – زراعية للنخب اللبنانيةعموماً والمسيحية خصوصاً في اتجاهها نحو مصر والداخل العربي.
قد يكون من السذاجة اتهام الحويك انه كان غافلاً عن الحقائق الديموغرافية (وبكلام اوضح الانتشار الاسلامي التاريخي للشيعة والسنة في الجنوب والبقاع وعكار)، ومن الرعونة الاستهانة برؤية الحويك الاستراتيجية، فالعودة الى الجغرافيا التاريخية الانسانية للبقاع مثلاً تظهر انتشاراً كبيراً للعنصر المسيحي تلك الاثناء في كل انحاء البقاع بدءاً من راشيا الوادي، وبيت لهيا ومشغرة وكل ما يسمى البقاع الغربي والشرقي وصولاً الى البقاع الاوسط وقوسايا ودير الغزال وزحلة وتعلبايا وقب الياس وجديتا وغيرها الكثير من القرى صعوداً الى بعلبك ومروراً بسرعين ورياق وابلح وكل شريط القرى المسيحية المتراصة وصولاً الى بعلبك نفسها التي شكل المسيحيون في زمن ما جزءاً اساسياً من اهلها. ولكن المشكلة ان بطريرك الموارنة الذي واجه الاحتلال التركي بشجاعة معرضاً نفسه لخطر النفي والموت لم يكن يعرف ان شعبه سيترك هذه الارض وينتقل من مجتمع فلاحين ومزارعين الى مجتمع استهلاكي يلهث وراء التجارة وجمع المال والهجرة في غضون سنوات عدة نتيجة سيطرة رأس المال والاقطاع المسيحي – الاسلامي على الدولة الناشئة واهمال كل مقومات قيام الدولة الحديثة بمعايير تلك الايام. وما يصح على الوضع الديموغرافي بقاعاً لا يصحّ تماماً على الوضع في الجنوب رغم الانتشار المسيحي المهم في مناطق جزين ومرجعيون وحاصبيا آنذاك. لكن الحويك ارتضى “التنوع في الوحدة” سبيلاً الى بناء الدولة التي تستطيع الوقوف على قدميها، ولم يقبل بالاقتراحات التي تقدم بها الفرنسيون والانكليز بضم جنوب الليطاني الى فلسطين.
اراد البطريرك الحويك قيام دولة لا يشعر فيها المسيحي انه مواطن درجة ثانية، وكان مدركاً بالعمق لخصائص الديموغرافيا والمناطق اللبنانية، وما قام به ليس خطيئة اذاً، بل خطيئة التركيبة الاجتماعية لدى اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً الذين احبوا فرنسا ومبادئها في “الحرية والعدالة والمساواة” لكنهم لم يستنسخوا تجربتها في إسقاط الاقطاع والعشائرية، واستمروا على ولاءاتهم وعقليتهم ورجعيتهم دون اي محاولة جدية لبناء دولة حقيقية تشبه الجمهورية الفرنسية على الاقل.
النقطة الثانية: مشروع الفيدرالية مشروع نظري في لبنان لا يمكن تطبيقه من دون توفر شروط عدة، منها:
• النضوج الثقافي – الفكري لتقبل هكذا مشروع.
• الاستعداد لتقبل فكرة الاخر المختلف وبمعنى أخر الاقرار رسمياً بالتعددية الثقافية الحضارية حيث يختلف اللبنانيون على كتابة التاريخ وسيستمرون في ذلك.
• الاعتراف بقيمة الفرد الانسان والاعلان عملياً وتطبيقياً عن احترام شرعة حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل، أو اقله القبول بالزواج المدني.
النقطة الثالثة: وفيها العبرة من تجربة حروب البلقان وتحديداً ما جرى في يوغوسلافيا القديمة والبوسنة والهرسك وكوسوفو حيث ادى الاعلان عن قيام الكيانات السياسية ذات الخلفية الدينية الى عمليات تطهير عرقي – ديني لا يزال ضحاياها احياء حتى يومنا هذا. والدعوة الى اعتماد النموذج الفيدرالي على الطريقة السويسرية سهل نظرياً لكن تطبيقه صعب عملانياً ما لم يتم التوافق عليه ما بين المجموعات التعددية اللبنانية وبرعاية دولية وبشروط معينة. ويمكن الدعوة الى اجراء استفتاء على مشروع الفيدرالية أسوة بما جرى في كندا من استفتاء على استقلال مقاطعة الكيبك، اذ لا يجوز فرض الفيديرالية قسراً ما لم تحظى برضى المجموعات الحضارية المكونة للشعب اللبناني. ومن الممكن في هذا الاطار استفتاء كل مجموعة وبرعاية دولية وكلّ على حدة على طريقة “المشروع الارثوذكسي” للانتخابات النيابية.
النقطة الرابعة: تكمن في حدود هذه الفيديرالية وحجم كل منطقة وتركيبتها وتوزع السلطات فيها مع الحفاظ على المكونات الاقلوية المتواجدة فيها واحترام وجودها وحقوقها ودورها في بناء الوحدة الفيديرالية. فما العمل بشيعة جبيل والبترون وكسروان، ودروز المتن وبعبدا ومسيحيي عكار والجنوب والشوف وعاليه وزحلة والبقاع الغربي وجزين والنبطية والشريط الحدودي وغيرها من المناطق المختلطة ؟ وما الذي يمنع عمليات الفرز الطائفي والتطهير الديني في هذه المناطق ما لم يتوفر الوعي الثقافي – الحضاري لإنجاز هذا المشروع ؟ فدعاة الفيديرالية يعلنون ان لا موجب للفرز الطائفي في مشروعهم، وكذلك ادعى قادة مسلمي كوسوفو خلال الحرب في بلادهم بأنهم يريدون العيش مع الاقلية الصربية لينتهي الامر بوجود قوات دولية لحماية الاقلية الصربية وهل نستدعي الجيوش لحماية الاقليات… .
النقطة الخامسة: قدمت الدول الفيديرالية في العالم نموذج “وسيط الجمهورية” لكي يتولى التعامل مع الاقليات… فهل يمكن الاعتماد على هذا الحل في لبنان لانقاذ الاقليات من الابادة ؟
النقطة السادسة: تكمن في الفيديرالية بحد ذاتها وحجم القدرات والامكانات التي ستحظى بها السلطات المحلية على مستوى الوحدة الفيدرالية، فمن المسلم به ان الجيش والقوى العسكرية والامنية والعلاقات الخارجية والعملة تبقى مركزية وتحت سلطة واحدة. لكن مشكلة الفيديرالية اللبنانية هي كيفية توزع السلطات المتبقية فثمة تكامل بين المناطق اللبنانية، وبعضها زراعي (عكار، البقاع، اجزاء من الجنوب)، وبعضها الاخر صناعي (المتن، بعبدا، طرابلس). وكيف يمكن لهذه المناطق ان تتكامل اذا عملت على بناء الحد الادنى من الاستقلالية في ما بينها ؟ وتجربة المناطق الشرقية المسيحية خلال الحرب نموذج فاقع على ما نتحدث عنه، وخصوصاً خلال ايام الحصار والضغوط السياسية لانتزاع مكاسب من المسيحيين.
النقطة السابعة: تتصل بالوضع المسيحي في الفيديرالية المنتظرة، وهل تستطيع هذه الوحدة حوالى 5000 كليومتر مربع (اذا ضم البقاع الغربي والاوسط اي زحلة وجوارها الى اقضية جبل لبنان) ان تؤمن الاكتفاء الذاتي للمسيحيين ؟ وهذا سؤال كبير لا بد من طرحه في مواجهة من يدعون الى نظرية “ما بقا ينعاش معهم” والمقصود المسلمين.
النقطة الثامنة: ماذا نفعل بالمسيحيين الذين سيضطرون الى مغادرة الوحدات الفيديرالية الاخرى نتيجة الضخ الاعلامي ودعوات البعض الى التقسيم والانعزال، واين المشروع المسيحي الذي سيستوعب جماهير المسيحيين الذين سيطلب منهم، او سيعمدون الى مغادرة اراضيهم وبيوتهم وارزاقهم وسهولهم وبساتينهم ؟ لقد فشلت الكنائس والمؤسسات المسيحية في التعامل مع ترددات الجوع والفقر التي تضرب لبنان منذ سنتين فكيف يمكننا ان نطالبها بإستيعاب عشرات الالاف من المهجرين من ارضهم الام ؟
النقطة التاسعة: سؤال بسيط، لقد قام المسيحيون اللبنانيون ببناء مجتمعهم الخاص وجيشهم الخاص ومؤسساتهم الاعلامية والسياحية والاقتصادية خلال الحرب قبل العام 1990 ، ثم عمدوا الى تدميرها بيدهم نتيجة الصراع على السلطة فما الذي يمنع تكرار “حروب الالغاء” بين زعماء العشائر المسيحية.
النقطة العاشرة: ما الذي يمنع ان يتحول جبل لبنان الى منصة لهجرة مسيحيي لبنان نهائياً وتكرار نموذج مسيحيي العراق، الذين انتقلوا الى كردستان وشمال العراق في نينوى طمعاً بالامان والسلام وها هم اليوم يغادرون عن بكرة ابيهم ولم يبقى منهم إلا كل “طويل عمر”. وحدث كذلك عن مسيحيي سوريا الذين يهاجرون بالالاف ويتهدد الذوبان حضورهم ومصيرهم.
في خلاصة الامر، النقاش جيد في الفيدرالية، ولكن لنتذكر ان المسيحيين لا يعيشون منفردين في لبنان بل هناك تعددية واسعة، واقرار اي نظام سياسي يحتاج الى نقاش مستفيض وحلول مبتكرة، واحدها قد يكون بتعزيز مشروع اللامركزية كبداية مؤسساتية على طريق التنمية الشاملة والحد من الصراع على السلطات المركزية الصارمة التي تمسك بكل شيء من اقصى الجنوب الى الشمال. وتطبيق اللامركزية قد يكون مدخلاً الى اعتماد المناطقية Regionalism المعتمد في ايطالياً او فرنسا والذي يتيح للمناطق تطوير ذواتها وقدراتها بحرية نسبية من دون الدخول في مبدأ الوحدات الادارية على اساس ديني او عرقي كما تدعو اليه الفيديرالية، وهذا بحث أخر…
* مقالة في اسبوعية “الحدث” الصادرة في كندا