مقالات مختارة

نحو سياسة اجتماعيّة دافعة للنمو

في ظلّ نظام اقتصاديّ دوليّ شديد التعقيد، تبرز الحاجة كل يوم إلى سياسات اجتماعية دافئة ومحفّزة للنمو، ولا سيما في الدول النامية التي تعيش أزمات متداخلة ومرهقة للدولة والمواطنين، فهل تجتمع السياسة الاجتماعية الرعائية بأعبائها الكثيرة مع النمو الاقتصادي المست

مع تعقّد العلاقات الاقتصادية الدولية بصورةٍ مطّردة في العقود الأخيرة، والتغيرات الكبرى التي حدثت في أنظمة الإنتاج وأنواعه وكمياته، ومع تسارع وتيرة التطور الدافع إلى التغيير في كل نواحي الحياة، وفي ظل مسارٍ من العولمة لا ينفك يتدفق بكل زخمٍ واندفاعٍ وحدّة، زادت حدّة الاختلالات الاجتماعية، وتعمّقت الفوارق في معظم المجتمعات بصورةٍ منهجية حيناً، وفوضوية أحياناً أخرى، وشهدت أرقام النمو الاقتصادي المختلفة، بحسب اختلاف تجارب الدول معها، انحداراً في مستوى العيش في أغلب الدول النامية تحديداً.

لقد أبرزت هذه التطورات ضرورات جديدة تحثّ على اعتماد سياسات اجتماعية أكثر دفئاً وعدالة، وارتفعت الأصوات المطالبة باعتماد التشريعات الاجتماعية الداعمة للنمو، في اتجاه تحقيق رفاهية مجتمعية وتقدم متين، بالاستناد إلى العدالة في توزيع الثروة وتحمّل الأعباء والمسؤوليات.

 

الدول النامية… معاناة مزمنة

لقد عانت الدول التي توصف بالنامية اليوم، أو تلك المصنّفة في طور النموّ، ظروفاً تاريخية بالغة القسوة، بعضها كان نتاج تفاعلاتٍ داخلية تخبَّطت في أزماتها حتى أصبحت مزمنة، كعدم الاستقرار السياسي وفساد أنظمة الحكم وضعف الديموقراطية والقدرة على تقرير المصير، نتيجة تغوّل فئات مجتمعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية… على باقي الفئات، وبعضها الآخر كان نتاج استعمار خارجي استولى على ثروات تلك الدول، وعمّق أزماتها، ومنعها من اللحاق بركب مثيلاتها من الدول التي وجدت طريقها إلى التقدم نحو المستقبل.

وفي حين كان المشرعون في الدول المتقدمة يعبّرون فعلياً عن حاجات مجتمعهم، نتيجة انبثاقهم من المجتمع عبر آليات انتخاب ديموقراطية، لم تتمكّن مجتمعات الدول النامية بصورةٍ كلية من إيصال صوتها بدرجةٍ كافية لإحداث تحول يعبر عن مصالحها من النظام السّياسيّ أولاً، ومن النظام الاقتصادي والاجتماعي تالياً، فأخفقت في فرض ترجمة الإيرادات الضريبية التي تؤديها للدّولة إلى تقديمات رعائية تتراكم لتشكل سياسيةً اجتماعية واضحة لتلك الدول.

وكان هذا الخلل المزمن يمثل تعبيراً حقيقياً عن غياب صياغة سياسات اجتماعية إشراكية ترأب التصدعات المتسعة في بنيان تلك الدول، بخلاف دول أخرى أولت الملامح الأولى للثغرات الاجتماعية المتأتية من خلل في انعكاسات النظام الاقتصادي أهمية بالغة، على قاعدة ما كان الكاتب المصري محمد حسنين هيكل يقوله من أن “أي كسرٍ يبدأ بعلامةٍ على حجر، والعلامة تتحوّل إلى خط، والخط يتحول إلى شِق، والشق إلى فالق”. هكذا تكبر التصدعات لتتحوّل إلى انهيارات، وهو ما يطرح التساؤل الأول: من هي الجهة صاحبة المسؤولية في وضع السياسة الاجتماعية؟ وما هو مفهوم هذه السياسة في عالم اليوم؟

 

مفهوم السياسة الاجتماعية

على الرغم من التقدم الذي شهده الحراك العالمي المطالب بحقوق الإنسان، والذي حقق قفزات مهمة في التخطيط لسياسات اجتماعية أكثر عدالة، وولوج أفكار المنظرين والناشطين في هذا الحراك أروقة المنظمات الدولية الكبرى وتأثيرها في سياساتها، فما تزال الدول تمثل الوحدات السياسة الأكثر قدرة وصلاحية لانتهاج سياسات اجتماعية، لكونها هي التي تضع السياسة بمفهومها الشامل، وهي التي تمتلك الشرعية اللازمة والمصلحة الأولى في هذا السياق.

يقوم مفهوم السياسة الاجتماعية بمضامينه المتشعّبة على إجراء ديناميات سياسية مستندة إلى سلطة الدولة وقدرتها على فرض السياسات على مختلف شرائح المجتمع، إذ يندرج في الإطار المفاهيميّ للسياسة الاجتماعيّة أنّها “عملية اتخاذ القرارات التي تتعلق بأهداف المجتمع”، وأنها هي التي تحدد المجالات المختلفة للرعاية الاجتماعية المرتبطة أساساً بالتوجهات الكبرى للمجتمع.

يشمل هذا المفهوم المتطور باستمرار أن السياسة الاجتماعية متعددة المستويات، وهي تشمل الجهود الحكومية والجهود الأهلية معاً، المبنية على تخطيط واعٍ للحاجات يستند إلى منهجية علمية تضمن سيره على هدى الأهداف التي تصبو السياسة إليها.

هي إذاً منظومة من العمليات المشتركة الناتجة من حاجات المجتمع، والمعبرة عن تطلعاته، والفاهمة بعمق لتشعب العلاقات المكتنفة في طياته، لتصب في النهاية في الأهداف المطلوبة له. أما أهميّة هذه السياسة، فتتركّز في كونها وعاء انصهار وتناغم للأفكار الدافعة لتقدم المجتمع، بعيداً من النزعات الخاصة والفئوية، سعياً وراء مصلحةٍ جماعية عليا تعود على الفئات والأفراد بعوائد مربحة ومُرضية.

كما أنها تمثل مجالات العمل واتجاهاته وأسلوب القائمين على الأمور الخاصة بالتخطيط والتنفيذ، “وتكمل الجهود المتتالية نتيجة لتوحد الهدف البعيد”، عن طريق تعاون المخططين في تحديد الأولويات في وضع الخطط الاجتماعية. إن السياسة الاجتماعية المنسقة بصورةٍ جيدة تكون انعكاساً جلياً لإنسانية النشاط السياسي العام للدولة ومكوناتها، ولترابط أبنائها مع المفاهيم والقيم التي يختزنها العقد الاجتماعي الجامع في ما بينهم، والمكون للوحدة السياسية التي ارتضوها لأنفسهم، والتي تعبر عنهم بين الأمم الأخرى.

يسهم التخطيط للسياسة الاجتماعية في تحقيق الاستثمار الأمثل لإمكانيات المجتمع بشقيها المادي والبشري، سعياً وراء نمو شامل متعدد الأبعاد ومتقدم من مختلف المستويات، ليعبر عن رغبة المجتمع في الحياة، من خلال تحقيق درجة تناسق أعلى ومستوى حياة أفضل للجميع، الأمر الذي يعود ليحقق إشباعاً كافياً لحاجات الأفراد الأساسية، ثم المحققة للذات، وصولاً إلى الرفاهية وتحقّق الدور المرضي. هي، إذاً، سعي إلى تقدم عريض يشمل كل المجتمع، ولا يترك خلفه متساقطات من النسب والهوامش والأضرار الجانبية التي غالباً ما تكون حيوات بشر لهم حقوقهم وتطلعاتهم وحاجاتهم، ويقدمون جهودهم مثل الآخرين، وفي معظم الأحيان، أكثر من الآخرين.

أما وظائف السياسة الاجتماعية، فهي متعدّدة، وأساسها التنمية الشاملة التي تمكّن من احترام دور الفرد والأسرة، وتعمل لتقويته وإظهار أقصى فضائلة، وتعمم فائدته على الفئات الأخرى. كما أن لها دوراً استباقياً يقي الفئات الأكثر عرضةً للأضرار الجانبية الناتجة من الاندفاع في مسارات التنمية، وهي أعراض متزايدة لتصبح موضة العصر، وأحد أبرز هواجس القادة الواعين فيه.

ثم إنَّ للسياسة الاجتماعية وظيفة علاج الظروف المنعكسة على الفئات الضعيفة في المجتمع، على المستويات الاقتصادية والإنتاجية والجندرية والعمرية… إضافة إلى دمج الفئات التي لا تتمكن وفق الآليات الطبيعية من الحصول على فرصتها العادلة بالتعبير عن قيمتها المضافة في المجتمع.

وتسعى السياسة الاجتماعية المخططة جيداً إلى الاستجابة للحاجات، وتجنّب المخاطر، واستغلال الفرص، وصقل طاقات المجتمع وتمكينها بكل مكوناتها من التحرك خدمة لأهداف المجتمع الكبرى، فتعمل دينامياتها لمكافحة الأمراض الاجتماعية والوقاية من مسبباتها، وتضييق مساحات التباين بين طبقاتها، وتقريب مستوى الخدمات التي يحصل عليها كل جزء من البناء الاجتماعي، وحفظ توزعه على مساحة النشاط التي تعنى بها هذه السياسة.

ومن أهمّ مشكلاتها، يبرز الفقر واتساع الفوارق بين البشر، وسوء توزيع الدخل، ومخاطر الزيادة السكانية، وتوزع هذه الزيادة على الجغرافيا بصورةٍ غير متوازنة تحمل معها المزيد من الضغوطات على الإدارة السياسية لهذه المشكلات، والتشرد، والبطالة، والإدمان، ومعدلات الجريمة، والتصنيف والتمييز على اختلاف العناصر المكونة لهما… فيما يسود اعتقاد بأن عناصر هذه السياسة تتلخَّص في 4 عناوين رئيسة: الخيارات السياسة الكلّية للمجتمع، والأهداف البعيدة له، ومجالات العمل الاجتماعي، والاتجاهات الملزمة للعمل الاجتماعي.

 

نحو سياسة اجتماعية تستجيب لتحديات العصر

إنَّ مخاطر غياب السياسة الاجتماعية عديدة، لكن من بينها ما هو أكثر استحقاقاً للعناية، كالبعد المتعلق بالعمل، والذي يشكل انتهاكاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولحقوق الإنسان نفسها، في ما يتعلق بالعمل والبطالة والرعاية الاجتماعية، إذ يؤكد الإعلان حق كل إنسان بالرعاية الاجتماعية، وهو في “المادة 25 منه يشدد على حق الفرد بمستوى معيشي ملائم له ولأسرته، بما يشمل الغذاء والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية والحق في الحماية من البطالة العجز والشيخوخة”، وكل ما يرتبط بذلك.

كما يؤكد الإعلان في مادته الثانية والعشرين حقّ الأفراد في الأمان الاجتماعي، إضافة إلى تأكيد المادة 23 حق العمل أيضاً، والحماية من البطالة، والحق في تقديماتٍ مكملة للأجر.

إذاً، ينطلق المفهوم العالمي للسياسة الاجتماعي من حقوق الإنسان، الأمر الذي يضعه في مصاف الضرورات الأكثر إلحاحاً، وليس ضمن سياسات الرفاه الاجتماعي المقتصرة على الدول القادرة على تأديتها. ويشير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى الدولة كمسوؤلٍ مباشر عن تحقيق حقوق العمل والحماية من البطالة، والتقديمات المكملة للأجر وإنجاز الرعاية الاجتماعية، وهي، أي الدولة، الموكلة بصياغة السياسة الاجتماعية ووضعها، الأمر الذي يطرح مجموعة من الملاحظات المهمة.

إنَّ الرعاية الاجتماعية العامة للمواطنين تمثل التزاماً عاماً، وليست كلفةً خاصة يفترض أن يحصل عليها المواطنون لقاء جهودهم في النشاط العام للمجتمع من جهة، وكنتيجة لانخراطهم في العقد الاجتماعي المكون للدولة من جهة ثانية، فهم عناصر مكونة لها، كل من موقعه وقدرته ومساهمته، حتى تصبح العائدات الاجتماعية انعكاساً للانتماء أولاً، ثم للمساهمة ثانياً. وعليه، لا يجوز أن تترك مسؤولية السياسة الاجتماعية على عاتق الاقتصاد الخاصّ، مع حفظ وتأكيد دور النهج الاجتماعي الضروري لمؤسسات الاقتصاد الخاص، والذي يعبر عن التزامها الاجتماعي تجاه المجتمع الذي تنشط فيه، والأفراد المكونين له، والذين يمثلون سوقها وموضوع عملها.

ملاحظة أخرى يمكن تسجيلها في هذا السياق، وهي تسجيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مسؤولية البطالة على عاتق الدولة، علماً أنَّ النظام الاقتصادي الدولي بتفاعلاته وتطوراته المتسارعة جعل من مؤسسات القطاع الخاص، ولا سيما الكبيرة منها والعابرة للحدود، لاعباً أكثر فاعلية من الدولة (في معظم الحالات) في تحديد حاجات سوق العمل ونوعية الكفاءات المطلوبة… لكنَّ هذه المسؤولية مرتبطة بصورةٍ أساسية بصلاحية الدولة وسلطاتها العامة في تأمين الأطر المناسبة لتوفير العمل، من خلال انتهاج حوكمة اقتصادية تشجع على الإنفاق الاستثماري، ومن خلال تعزيز الأطر التشريعية والإجرائية والمؤسسية الدافعة لهذا الإنفاق.

ودائماً ما تقف الحاجات التمويليّة عائقاً أمام طريق اعتماد الدول النامية سياسات اجتماعية رعائية، نظراً إلى صعوبة واقعها المالي، ونضالها بصورة مستمرة لأداء التزاماتها، والضغوط الكبيرة التي ترزح ماليتها العامة تحتها. إنها سمة من سمات اقتصاديات الدول النامية، لكنَّ النهج العالمي الداعم لهذا النوع من السياسات، يمكن أن يوفر فرصاً عديدة من المساعدات المالية والتقنية لتنفيذ سياسة كهذه، فضلاً عن أن الصعوبات في هذا المجال يمكن أن تشكل بحد ذاتها فرصة للإصلاح والانطلاق من تلك الحاجات لتصحيح الظروف المؤدية إليها. كما أن تحقيق سياسة اجتماعية فاعلة سيدفع باتجاه خطوات أبعد في مسار التنمية المتعددة الأبعاد، وسيأخذ بيد تلك الدول نحو المستقبل بتناغم خلّاق بين قطاعاتها وطبقاتها الاجتماعية المختلفة.

إنَّ السياسة الاجتماعية المطلوبة اليوم في الدول النامية وغيرها من الدول تتمحور حول أبعادٍ ثلاثة: “بعد يتعلق بعدالة توزيع الدخل، وبعد رعائي، وبعد متعلّق بالإدارة الاقتصادية التي يتحوّل من خلالها الاقتصاد إلى اقتصاد داعم للقيم الإنسانية”.

وتنشأ ضمن هذه الأبعاد مبادئ ثلاثة أيضاً: “يتمثّل المبدأ الأول بأنَّ العمل يشكّل أحد مولدات القيمة الاقتصادية، وهو الوحدة الثابتة التي تحتسب بها هذه القيمة عبر الأطر الزمنية. لذا، وجب نزع صفة السلعة عن ذلك النشاط الملازم للإنسان”، ويتمثّل المبدأ الثاني بكون “العمل حقّاً لكلّ مواطن راغب فيه”، وقد كرسه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أما المبدأ الثالث، فيتمحور حول حقيقة أنَّ التقديمات الاجتماعية بشقها الإشراكي والمحفّز للعمل هي ضرورة اقتصادية، بقدر ما هي التزام مجتمعي يشكل أحد مداخل الانصهار الوطني.

إنَّ السؤال الكبير الَّذي يطرح دائماً حول جدليّة العلاقة بين دور الدولة في إدارة سياسة اجتماعية رعائية وسعيها إلى تحقيق النمو، يمكن الإجابة عليه بالتأكيد، فوفق التجارب التي شهدتها دولة الرعاية في العالم الأول، يمكن القول إنَّ التضامن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية دافعان قويان للتنمية الأكثر استدامة.

بقلم: محمد سيف الدين

  • مدير عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، دكتوراه في العلوم السياسية، متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.

المیادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى