د. عدنان منصور | وزير خارجية لبنان الأسبق .
شهد عهد المتصرفية في جبل لبنان، واحداً من المتصرّفين الفاسدين، وهو واصا باشا، رابع المتصرّفين الذي حكم الجبل لعشر سنوات من عام 1882 الى 1892. عرفته العامّة، وعرفه المؤرّخون بحبّه للمال وجشعه، ورعايته للفساد من خلال مجلس كان يديره مع صهره، زوج إبنته kUPELIAN كوبليان.
هذا المجلس وعد وبشر بالإصلاح، وتحسين أحوال اللبنانيين، وبمنع تدخل القناصل الأجانب في شؤون المتصرفية. لكن الإصلاح والوعود ذهبت أدراج الرياح، إذ عمّت الفوضى، واستشرى الفساد في كلّ مكان، وتغلغل نفوذ الحاشية في كلّ صغيرة وكبيرة، وعمّت الرشوة المرافق كافة، فكانت المحاصصة والمحسوبية سيدة الأحكام، وعلى كلّ لسان، ترعاها زمرة المجلس، والمتصرف واصا باشا على رأسه، يوزعون الوظائف والأدوار والنفوذ، ويحيط نفسه بزمرة من المحسوبين، والمحظوظين، والأزلام، وهم يغرفون، ويجمعون المال من هنا وهناك. حتى وصف حكم واصا باشا، بحكم الفساد، والرشوة، والنهب المنظم، إذ كان واصا باشا شغوفاً حتى النخاع في الحصول على المال والثروة.
عند وفاته، لم يجد الشاعر اللبناني تامر الملاط ما يرثي به «متصرف المال»، ويلخص حكم واصا باشا في متصرفية جبل لبنان و«إنجازاته»، ويفيه «حقه» سوى ببيتين من الشعر جاء فيهما :
قالوا قضى واصا وواروه الثرى
فأجبتهم وأنا العليم بحاله
رنوا الفلوس على بلاط ضريحه
وأنا الكفيل لكم بردّ حياته
لكم كان واصا باشا متواضعاً، مسكيناً، قنوعاً بما حققه من مال، أمام ما نراه اليوم من نهب منظم، متوحش، ممنهج، يقوده «متصرفو باشوات، وبكوات، ومشايخ سيف،
وطبق، وقلم، وصلح، وأفندية لبنان الجدد»، ينهبون الوطن وثرواته، والشعب وماله.
من سوء حظك واصا باشا انه لم يكن في متصرفيتك كهرباء كي تنعم بمولدات، وبواخر دسمة، وسمسرات، وصفقات، ولم ينشأ بعد الحرب الأهلية التي شهدها الجبل عام 1860 وزارة مهجرين تطيل بعمرها، وتملأ خزنتك منها، ولا وادي ذهب يغرف منه أعضاء مجلسك. من سوء حظك واصا باشا أنه لم ينبثق بعد حرب الجبل الأهليّة شركة سوليدير وأخواتها. ولم يكن الإسمنت والنفط والغاز معروفاً بعد، كي تحتكرها وتستغلها، ولم تكن وسائل الاتصالات وشبكاتها موجودة، حتى تغتني من صفقاتها، وأدواتها، وصيانتها، ومعداتها. ولم يكن هناك في متصرفيتك من بنوك تأخذ منها قروضاً كبيرة ميسّرة، ومصرف مركزي، ولا جمعية مصارف، كي تنهب مال وجنى عمر أبناء متصرفيتك، ولا مروحيات بوما ولا صواريخ كروتال، ولا مجلس إنماء وإعمار الجيوب، ولا أتوسترادات تدرّ على جيوب السماسرة والمتعهّدين أضعاف قيمة إنشاءاتها الحقيقية، ولا صندوق تعويضات لمهجري المهجرين، ولا شركات كريهة لجمع النفايات، ولا إدارة مدنية تنتفع، وتنتفخ منها بطون «الكادحين»، أو مقالع صخرية حصرية للمحظوظين، أو منتجعات وأملاك بحرية تضع يدك عليها، أو هبات مالية ومعونات ومساعدات تأتيك من الخارج ليذهب الجزء الأكبر منها الى جيبك وجيوب أعضاء مجلسك، أو قضاء تتحكم به، تجعله رهينة لك، ويكون أسير المال والسلطة.
ليتك يا واصا باشا لبنان الصغير، تعرف اليوم، كم من «واصات» باشاوات كبار، تتلمذوا على يديك، وتخرّجوا من «مدرستك» وكانوا أوفياء لنهجك وسلوكك، ليتجاوزوك ويتفوقوا عليك كثيراً، حيث أكلوا الأخضر واليابس، ورقصوا على أجساد الجائعين، وانتزعوا اللقمة من أفواه اليتامى والمعذبين، وجمعوا حولهم الحاشية بكلّ ما فيها من موبقات، ومنافقين ومنتفعين، وفاسدين، ومطبّلين وانتهازيين، ومتعهّدين، ووعاظ سلاطين متزلفين مشعوذين، من راسمي خرائط النهب المنظم، والخطوط الحمر.
واصات قطط سمان بعد جوع ونهم متأصل في حياتهم، يقضمون، ويلتهمون، لا يتركون شيئاً، يغرفون ولا يشبعون، وبعد ذلك ترى الواحد منهم يطلّ على الشاشات، بكلّ وقاحة، ونذالة، وحقارة ما بعدها حقارة، بلا أدنى خجل أو
حياء، حيث تخجل المومس من أفعاله، فيريد أن يوحي إليك بإطلالته البهية، ووجهه الملائكي، لترى عيونه تفيض من الدمع وهو يتحدث عن هموم الناس وفقرهم وجوعهم، فتجد نفسك تثور على الفور وتلعن أساسه وذريته، لما يسبّبه للمشاهد من قيء وغثيان. أليس هو هذا اللص السارق، الساكن فجأة في القصور، بين ليلة وضحاها، حيث تاريخه المزري المقيت، على كلّ شفة ولسان، فتعمد على الفور الى تغيير القناة لتذهب بها الى محطة وثائقية عن الوحوش المفترسة في أفريقيا، لتستأنس بها أكثر من هذه الوحوش» اللا آدميّة».
واصات باشاوات باكوات ماتوا وقبروا، ومنهم ما زال على قيد الحياة ينتظره القبر بفارغ صبر، وحساب الديان.
السارقون الناهبون القابعون اليوم في قبورهم المظلمة الحالكة، ينتظرون شركاءهم في العصابة الواحدة، ليلتحقوا بهم عاجلاً أم آجلاً. فهؤلاء لن يحتاجوا الى نداء الشاعر تامر الملاط لرنّ الفلوس على بلاط قبورهم كي يستعيدوا حياتهم من جديد، يكفيهم إذا مرّ رياض سلامة، أو سليم صفير، او أيّ واحد من أعضاء جمعية المصارف، أو واحد من أباطرة وقراصنة المال الحرام عن بعد كيلومترات من قبورهم، لنرى عظامهم تتحرّك وتنتفض من تلقاء نفسها، وهي التي بذبذباتها الدقيقة تتمتع بحاسة شديدة، تلتقط رائحة المال عن بعد، ورائحة الهندسات المالية، وما في جعبة «واصا المال» من مغريات وتقديمات ومكرمات.
مسكين واصا باشا، كم كنت هزيلاً، أمام واصات لبنان، الحاليين والسابقين، الأحياء منهم والأموات. فلو عشت اليوم وتواجدت بين «الواصات» الحيتان وأسماك القرش البشرية، وما أكثرهم، لكنت بينهم حملاً وديعاً، ينقضون عليك، ويأكلونك بنهم ما بعده نهم، ويلتهمون أعضاء مجلسك الذي تديره مع صهرك KUPELIAN وكل ما تملكون.
أيها المتصرف واصا باشا! إن كان في عهدتك متصرفية واحدة في جبل لبنان الصغير، فلدينا اليوم متصرفيات في لبناننا الكبير، وإذا كان في خدمتك مجلس واحد تكتفي به، يديره صهرك الوحيد، وهو «عون» لك، فتعال إلينا، لترى كم من «أعوان»، وأصهرة وأبناء، ومستشارين، ومجالس عائلية، وقطط سمان، بجانب واصات باشاوات وبكوات لبنان، تسيل لعابك ولعاب صهرك وزمرتك وحاشيتك، ولترى أيضاً كم من سلطان سليم عرفه لبناننا الكبير، ودولتنا العلية، ماضياً وحاضراً!
لو كان شاعرنا الكبير تامر الملاط حياً بيننا، يشاهد اليوم مسرح متصرفياتنا العتيدة، وأدوار ممثليها البارعين، ويرى ما نراه على خشبة مسرح الوطن من سلوك المفسدين في الأرض، من واصات لبنان وباشاواته وبكواته ومشايخ الأعيان فيه، فلن يكتفي بكلّ تأكيد ببيتين من الشعر، أو بقصيدة عصماء، فهو كي يرتوي ويشفي غليله وغليل شعبه، سيجد نفسه أمام حقيقة تحتم عليه القول، إنّ كلّ واصا من «واصات» لبنان، بحاجة الى معلّقة أطول من إلياذة هوميروس، وشاهنامة الفردوسي، ومعلقات امرئ القيس وطرفه بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم، كي تروي سيرته القذرة، ومسيرته القبيحة، وسلوكه المقيت، لتوضع في ما بعد على بلاط قبره، وتعلق على جدارية في ساحة رئيسة من ساحات الوطن وشعبه المقهور، تتناقل شعرها، وتردّده الأجيال من جيل إلى جيل.