الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ألقت التسوية الجديدة في درعا بظلالها على الرؤية السياسية لكلِّ الأطراف في الداخل السوري، ما دفع السوريين إلى التساؤل عن معنى ما حصل، وطبيعة الدّور الروسيّ الجديد فيها، والصمت الأميركي والأوروبي عما يجري في الجنوب السوري.
ربما يكون منظّر المحافظين الجدد، فرانسيس فوكوياما، أوَّل من خرج من تبنّيه نظرية “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، بعد الأزمة المالية التي عصفت بالولايات المتحدة في العام 2008، وتركت تداعياتها على الاقتصاد العالمي المرتبط بالقاطرة الاقتصاديَّة الأميركيَّة.
لم يكن هذا الموقف ليتشكَّل من دون مقدّمات، عبّرت عن نفسها بداية بالفشل في إيلاد نظام شرق أوسط جديد، بعد الهزيمة التي تلقَّتها “إسرائيل” ومن ورائها أميركا في حرب تموز/يوليو 2006، وتصاعد عمليات المقاومة العراقية التي فاجأت الأميركيين بإمكانية حدوثها، ما أدى إلى تغيير في استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة بالخلاص من الحروب الخشنة، واللجوء إلى الجيلين الثالث والرابع من الحروب لإخضاع من تعتبرهم أعداءها.
استطاعت واشنطن أن تنشر الدمار في المنطقة العربية عموماً، ابتداء من تونس في نهاية العام 2010، لتصل إلى سوريا عبر بوابة درعا، التي تشكّل الخاصرة الرخوة لدمشق، التي لا تبعد عن الحدود الأردنية سوى 110 كم، وعن قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجولان سوى 60 كم تقريباً، وأدخلت سوريا وليبيا واليمن بحروب مدمرة لم تنتهِ بعد.
نجحت واشنطن بتدمير جزء كبير من البنية الاجتماعية والاقتصادية السورية والعمرانية والبنى التحتية، ووصلت إلى نقطة إعاقة سوريا عن إمكانية العودة إلى مكانتها الطبيعية ودورها الإقليمي وإعادة إعمارها إلى أكثر من عقد من الزمن، وخصوصاً أن الحرب تركت آثارها العميقة في طبيعة إدارة الملف الداخلي.
كان للقرار الذي اتخذته دمشق بالاعتماد على كل من طهران وموسكو وبكين، أثره الكبير في منع سقوط سوريا في أيدي المجموعات التكفيرية المسلحة السورية والأجنبية، وإيقاف المشروع الأميركي عند الحدود الحالية، وخصوصاً بعد الدخول العسكري الروسي المباشر إلى جانب حرس الثورة الإيراني والجيش السوري و”حزب الله”.
كان لاستمرار المواجهة مع المشروع الأميركي على مستوى ساحات متعددة مترابطة، وخصوصاً في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن وأوكرانيا وأفغانستان، دور أساسي في تغيير الاستراتيجية الأميركية، والتركيز بشكل أساسي على مواجهة الصين وروسيا، وفكّ التحالف بينهما، وتقليل الاهتمام بالشرق الأوسط الذي استنزفها خلال عقدين من الزمن، ما أتاح الفرصة لكلِّ من الصين وروسيا لاستثمار الانشغال الأميركي بأولويات لم تستطع تحقيقها كما ترغب، كما تحدَّث عنها وليم بيرنز، رئيس الاستخبارات الأميركية، الّذي ركَّز على فكرة نهاية سحر الشرق الأوسط.
كان لعجز الإدارة الأميركية عن كبح صعود كلٍّ من روسيا والصين، وعدم قدرتها على تغيير السياسات الإيرانية وإخراجها من تحالفها غير المعلن مع الدولتين الناهضتين، دور أساسي في خفض آفاق استمرار الهيمنة الأميركية كقطب وحيد في العالم.
وكان لا بدَّ من سياسات جديدة تؤخر الاعتراف بذلك، فلجأت واشنطن إلى استراتيجية جديدة في غرب آسيا، تستند إلى فكرة التراجع عن التغيير القسري الذي عملت عليه لعقدين من الزمن، وفي الوقت نفسه عدم ترك هذه المنطقة بشكل نهائي، وهذا يتطلَّب مجموعة من السياسات الجديدة التي تذهب نحو تخفيف مستوى الصراعات إلى الحدود الدنيا، والتخفيف من الانتشار العسكري وجمعه في الأردن والخليج، لتأمين المصالح الأميركية وأمن “إسرائيل”.
تطلَّب الأمر تحديداً لحدود الصراع مع كل من بكين وموسكو وطهران، مع الاستمرار بسياسات الإشغال والضغوط القصوى، ومحاولات إعادة ترتيب المنطقة بما يصب في خدمة مصالحها، لكن القرار الذي اتخذته بإيقاف الحروب الخشنة دفعها نحو سياسة تقليل الخسائر قدر الإمكان، بالإقرار بمعادلات القوة الجديدة، والذهاب نحو تفاهمات مع موسكو وطهران بالدرجة الأولى، لتشكيل نظام إقليمي جديد في إطار هدنة طويلة والذهاب نحو التهدئة.
مثلما كانت سوريا هي المفتاح نحو طبيعة النظام الدولي القادم، فإنَّها تمثل القفل على استمرار النظام الحالي. ومن هنا، شكّلت الساحة التي يمكن أن يتم فيها اختبار المعادلات الجديدة بين القوى الدولية المتعددة، إضافةً إلى القوى الإقليمية التي تسعى لتثبت جدارة مسؤوليتها عن نظام إقليمي يمتد من أفغانستان إلى شرق المتوسط، وصولاً إلى شمال أفريقيا.
من هذا المنطلق، تحوّلت سوريا إلى الساحة الأساسية لتحديد مدى إمكانية تثبيت معادلات القوة الجديدة، ومدى إمكانية نجاح اختبارات التفاهمات بين القوى المتصارعة على الأدوار الدولية والإقليمية، فجاءت مجموعة من المؤشرات خلال الأشهر الماضية، بدءاً من الاختلاف الكبير حول ممرات المساعدات الغذائية التي كانت ستنتهي في العاشر من شهر حزيران/يونيو من هذا العام، إذ وصلت النتيجة بحلّ وسط يؤهّب للمرحلة القادمة، بالاعتراف بدخول المساعدات عن طريق المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، مقابل التأكيد على حصرية معبر باب الهوى للمناطق الشمالية التي تقع تحت سيطرة الاحتلال التركي. ثم تبيَّن في ما بعد أن الاتفاق أكبر من ذلك، بعد أن عبرت مجموعة من الشاحنات من مناطق سيطرة الحكومة السورية إلى مناطق الشمال المحتل، وكانت قد سبقتها من قبل الانتخابات الرئاسية من دون اعتراض حقيقي من عواصم الدول الغربية، وخصوصاً واشنطن، رغم التشكيك بعدم ديمقراطيتها ونزاهتها.
توجّهت الحشود العسكرية السورية الكبيرة إلى درعا، بمعطى جديد يدلّ على طبيعة ما يجري خلف الأبواب المغلقة، بعد أن زار الملك الأردني عبد الله الثاني موسكو، عقب زيارته واشنطن والحوار الصحافي الذي أجراه مع قناة “CNN” الأميركية، إثر لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن، ليوضح طبيعة المرحلة القادمة، بالاعتراف ببقاء الرئيس الأسد لفترة طويلة في الحكم، وأن من يدفع ثمن عقوبات قانون “قيصر” هو الشّعب السّوريّ.
سرّع إعلان الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله حول كسر الحصار على لبنان بانطلاق أوَّل سفينة تحمل الديزل إلى لبنان، بإعلان السفيرة الأميركية دوروثي شيا موافقة الإدارة الأميركية على تزويد مصفاة طرابلس بالغاز العربي عبر الأردن وسوريا إلى حمص فطرابلس، لتزويد محطتها الكهربائية بالغاز، في كسر أولي لقانون “قيصر”، الذي طلبت فيه دمشق جزءاً من الغاز المصري لتغذية محطاتها الكهربائية ليكون البدل المالي للعبور.
في هذه الأثناء، تحركّت الباخرة الإيرانية الحاملة للديزل عبر قناة السويس نحو كسر الحصار الأميركي، الذي لا يتحمّل الذهاب نحو صدام عسكري ينعكس على المجتمع الأميركيّ المنقسم على نفسه بين نظام العولمة وأميركا أولاً.
في النتيجة، إنَّ ما يجري في درعا، وبكلِّ سلاسة، يؤكّد مسار ترتيبات إقليمية نحو خفض التوتر وضبط الصراع بالحدود الدنيا. المسار يبدأ من الجنوب السوي، باعتبارها النقطة التي بدأت فيها الحرب في سوريا، وهي نقطة بداية إنهائها، والولايات المتحدة ليست بعيدة عنها، بإعطائها الأردن دور الشريك في إنهاء ملف الجنوب السوري، رغم عدم الثقة بالضمانات الأميركية وخبث سياساتها.
النتائج النهائية غير معروفة حتى الآن إلا كملامح عامة، وعسى أن تكون لمصلحة السوريين جميعاً، الذين ينتظرون ملامح تغيير البيئة الداخلية على المستوى الاقتصادي كأولوية، وأيضاً السياسي والاجتماعي والثقافي، بعد أن شتّتتهم حرب لم تُبقِ ولم تذر على مدى أكثر من عقد من الزمن، رغم أنَّ الصّراع سيبقى مستمراً، وإن بأشكال مختلفة.