من تواطأ مع “الغوغاء” لإقتحام الكابيتول وما هي النتائج؟
الياس فرحات – عميد ركن باحث لبناني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية
برغم كل ما قيل حول عملية إقتحام المتظاهرين وإخراج أعضاء مجلسي النواب والشيوخ عبر ممرات وبوابات خاصة إلى أماكن آمنة ومن ثم إستئناف الجلسة وصولاً إلى المصادقة على إنتخاب بايدن، فإن هذا الحدث سيبقى ولّادة للأسئلة، خصوصاً في ضوء ما يتكشف يومياً من معطيات قد تؤدي إلى محاكمة دونالد ترامب وآخرين ممن قد يثبت تورطهم في إقتحام الكابيتول.
من يراجع المقابلات التي أعطاها رئيس شرطة الكابيتول ستيفن سوند، غداة تقديم إستقالته، يذهب مباشرة إلى الأسئلة الصعبة: كل إستفسارات النواب الديموقراطيين، بناء على دعوة ترامب إلى التظاهر، كانت تأتي الأجوبة عليها إما ملتبسة أو مطمئنة إلى أن وقعت الواقعة. يقول سوند إنه طلب الإذن من مسؤولي الأمن في الكونغرس لإستدعاء الحرس الوطني إلى العاصمة ووضعه في حالة تأهب تحسباً لأية حاجة إلى دعم سريع وطارىء لكن طلبه قوبل بالرفض أو بالتأجيل ست مرات إلى أن حصل الإقتحام من ثمانية آلاف متظاهر تدفقوا في شارع بنسلفانيا ومن ثم إخترقوا محيط شرطة الكونغرس التي تأتمر بأوامر ستيفن سوند خلال أقل من 15 دقيقة، برغم وجود 1400 شرطي في الخدمة (من أصل 2000). لم ينته الأمر عند هذه الحدود. حصلت مشاورات عبر تطبيقات هاتفية شارك فيها أعضاء في الكونغرس وستيفن سوند ومظفين في البنتاغون. كانت الصدمة لرئيس شرطة الكابيتول عندما أبلغه مدير أركان الجيش الأميركي ولتر آي بيات أن لا يستطيع أن يوصي بإرسال الحرس الوطني إلى الكونغرس إلا بموافقة وزير الدفاع ريان مكارثي، وبالفعل لم تصل أول دفعة من الحرس إلا بعد الإقتحام وسقوط أربعة قتلى وعشرات الجرحى، تقول “الواشنطن بوست”.
الأخطر ما أوردته أيضاً مجلة “ذا أتلانتيك” حول ازدواجية معايير الشرطة في التعاطي مع المتظاهرين وفقاً لمعايير عرقية، وقالت إن ما شاهده الأميركيون على شاشات التلفزة، “لم يكن مجرد تمرد على الديموقراطية الأميركية، بل كان أيضاً تعبيراً عن سيادة البيض”، وأعطت أمثلة وقدمت مقارنات مع أحداث سابقة وكيف تجرأ بعض المتظاهرين الغاضبين على إلتقاط صور مع ضباط بيض داخل مبنى الكابيتول يوم الأربعاء الماضي.
الكل ينتظر نتائج التحقيق في ما شهده مبنى الكابيتول ولا سيما لجهة تحديد ما إذا كان قد حصل تقصير أو إهمال أو تواطؤ، وبالتالي لا بد أن تتدحرج رؤوس ضباط ومسؤولين على خلفية الكثير من الأسئلة: كيف دخل المتظاهرون الى مبنى يحظر الإقتراب منه أو مراقبته من على بعد ثلاثة “بلوكات”؟ كيف خرجوا ولم نشهد تفاوضاً معهم وما هي مطالبهم؟ هل كنا فعلياً أمام عملية منظمة محكمة القيادة والسيطرة، بدليل إنقسام المجموعات في الممرات وتوزعها على مداخل القاعات وداخلها وحتى في تسلق الجدران وقبلها إقتحام حاجز الشرطة الأول؟ وهل صحيح أن قوة شرطة الكونغرس بالغت في تقدير قوتها فرفضت تعزيز تدابيرها أو نشر قوة كافية، قبيل مظاهرة اتباع ترامب؟
تشير الألبسة الرمزية التي ارتداها المتظاهرون إلى تحضيرات مسبقة وإلى إعداد وتنظيم للعملية برمتها، وهؤلاء “الغوغاء” كما أطلق عليهم في وسائل الإعلام الأميركية، ينتمون إلى مجموعات متعددة، تجمعهم أيديولوجيا الولاء لترامب وخطابه الشعبوي، أمثال مجموعات “الأغلبية الصامتة” (The Silent Majority)، و”تحالف الثمانين في المائة” (The Eighty Percent Coalition) وحركات يمينية مثل “الأولاد الفخورين”(Proud Boys)، و”حفظة القسم” (The Oath Keepers)، وغيرهم من المجموعات المؤيدة لترامب.
أعاد مشهد الكابيتول تذكيرنا بما جرى في حزيران/ يونيو الماضي، إثر موت المواطن الأسود جورج فلويد خنقاً على يد شرطي أبيض في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا، وما تلاها من إندلاع أعمال عنف في العديد من الولايات الاميركية، تخللها إسقاط تماثيل بينها تمثال جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة.
لقد بالغ البعض في التحليل وصولاً إلى الحديث عن بداية زوال الولايات المتحدة وبدء العد العكسي للحرب الاهلية او انهيار النظام الأميركي العام. فما هي حظوظ هذه التوقعات؟
لا يمكن مقارنة مشهد الكابيتول بما جرى عندما شهر بوريس يلتسين مسدسه امام دبابة في موسكو، وكان مشهداً شكل بداية تفكّك الإتحاد السوفياتي وإنهيار المنظومة الشرقية قبل ثلاثة عقود من الزمن. حدث ذلك لأن الإتحاد السوفياتي كان اتحاداً كونفيدرالياً لجمهوريات متعددة الاثنيات، وهو ما يختلف عن الولايات المتحدة الأميركية المؤلفة من ولايات إنضمت إلى إتحاد فدرالي يتولى الأمن القومي والدفاع الوطني والسياسة الخارجية والإقتصاد والمال والأمن الفدرالي والنقل ومؤسسات فيدرالية أخرى لخدمات الصحة والغذاء والتعليم وقضاء فيدرالي يحاكم الجرائم المصنفة فيدرالية والأهم هناك ثقافة مشتركة بين الجميع من دون تجاوز خصوصيات عديدة.
لذلك، كل ولاية تعتبر أن لها مصلحة بالبقاء ضمن الإتحاد ولم يكن الإنفصال عن الإتحاد مطروحاً في أي ظرف برغم ما قيل عن كاليفورنيا بسبب موقعها الجغرافي القابل للإنفصال وإزدهارها الإقتصادي.
الخلافات السياسية في الولايات المتحدة هي عابرة للولايات وليست بين ولاية وأخرى مجاورة. تعاظم مؤخراً شأن الولايات المتأرجحة وهي ولايات كبيرة مثل فلوريدا وبنسلفانيا وميتشيغان وجورجيا وأريزونا وغيرها تشهد خلافات سياسية حادة داخلها وتكون نتائج الإنتخابات فيها متقاربة جداً. لم يعد هناك من مجال لولاية غالبيتها جمهورية مثل تكساس أو ديموقراطية مثل نيويورك وكاليفورنيا للإنفصال عن الإتحاد.
هذه الحياكة الماهرة للإتحاد فرضت نظاماً سياسياً ديموقراطياً يرتكز إلى دستور يصعب تعديله. تجري الحياة السياسية والعمليات الإنتخابية بشكل قانوني لكنها في العمق تختزن كتلاً نافذة تتحكم بالقرار السياسي.
مراكز النفوذ الرسمية في الولايات المتحدة هي الرئاسة والإدارة والكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب. أما مراكز النفوذ غير الرسمية فهي الإعلام والقطاع المصرفي (وول ستريت) والتجمع الصناعي وإنضم إليها أخيراً القطاع السيبراني الذي يسيطر على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن مراكز النفوذ غير الرسمية هي التي تنتج المراكز الرسمية، كيف؟ الجواب في الإنتخابات. كل مرشح لانتخابات مجلس النواب أو مجلس الشيوخ الحاكم ولاية أو عمدة مدينة كبيرة يحتاج إلى مبالغ مالية طائلة وإلى وسائل الإعلام من أجل نفقات الترويج لإنتخابه وفوزه. تقوم الحملات الإنتخابية على التبرعات، فمن الذي يتبرع؟ وهل هذا التبرع مجرد إحسان أم لوجه الله وإبتغاء لرضاه؟
إنه ليس تبرعاً. إنه توظيف غير رسمي لمال مراكز النفوذ تحت غطاء التبرعات من أجل الحصول على مراكز نفوذ رسمية تلبي طلباتها، أي طلبات المتبرعين الأوائل مثل المصارف والقطاع الصناعي.
الولايات المتحدة الاميركية دولة متينة دستورياً وهناك شبكة مصالح عميقة تمنع الانفصال والتفكك. نيويورك عاصمة المال، واشنطن عاصمة السياسة، كاليفورنيا عاصمة تكنولوجيا المعلومات، بوسطن عاصمة العلم، تكساس ولاية النفط، فلوريدا ولاية السياحة، نيفادا للقمار والترفيه وغيرها مما يضفي تكاملا قويا لكل المنظومة الإتحادية.
لا وجود لخطوط تماس سياسية أو عرقية في جميع الولايات إنما هناك أحياء خاصة بالسود أو الصينيين أو الإسبان أو اليهود أو غيرهم من الأقليات لا ترقى لدرجة المطالبة بالإنفصال أو الحكم الذاتي. في الولايات المتحدة، لا مجال لتكرار الحرب الأهلية التي نشبت أواخر القرن التاسع عشر لأن ظروف تلك الحرب، العبودية وانفصال الجنوب عن الشمال لم تعد موجودة. من الممكن أن نشهد إندلاع حوادث أمنية وأزمات سياسية تربك القيادة لكنها لا تربك النظام السياسي ولا تهدده.
من الممكن أن تجري المؤسسات الأميركية مراجعات حول جدوى التدخل الخارجي بعدما تبين أن كلفته باهظة لا سيما أن ترامب يعتبر حروب الشرق الأوسط، من دون نهاية Endless wars فيما وصفها بايدن أنها حروب لا لزوم لها Needless wars.
هكذا يحتمل أن تنكفئ أميركا عن النزاعات التي بدأها ترامب مع “أخصام” بلاده مثل الصين وروسيا وايران واوروبا وجيرانها في كندا والمكسيك وتخفض تدخلاتها العسكرية والسياسية في الشرق الاوسط، ومن المستبعد في ظل العولمة الراهنة وتسيد الولايات المتحدة في العالم أن نسمع عن عودة إلى الإنعزالية أو “مبدأ مونرو” في العام 1823 (نسبة للرئيس جيمس مونرو وبموجبه يتم الحفاظ على أمن وسيادة دول نصف الكرة الغربي ولا تتدخل الولايات المتحدة في الشؤون الأوروبية، أي عملياً إنكفاء أميركا عن كل ما هو خارج القارة).
كل ما يقال عن زوال وأفول ونهاية النظام الأميركي، كما إنتهى الإتحاد السوفياتي، او حتى إحتمال نشوب حرب أهلية، مستبعد إن لم يكن أضغاث أحلام.
180 post