ثريا عاصي | كاتبة وباحثة لبنانية
من نافلة القول أن الكيان اللبناني، دولة ومجتمعاً وطنياً، يمرّ في مرحلة حرجة، يمكننا نعتها بالخطرة على الوجود. ولا نبالغ أيضاً بالقول أن أهل السلطة، أمراء الحرب، توزعوا الدولة فيما بينهم . نجم عنه أن البلاد مقسمة جغرافيًا وسكانياً (ديمغرافيا) وان هناك عدة جهات تمارس عملياً، سلطة الدولة، بأساليب تشذ غالبًا عن المبادئ الدستورية وعن القوانين التي وضعت في الأصل من أجل تنظيم وصون العيش المشترك تحت مظلة وطنية واحدة . من البديهي في هذا السياق أن اتفاقية الطائف كانت الحافز للوصول إلى هذه النتيجة على صعيد الدولة، وبالتالي إلى جعل مصير اللبنانيين في مهب الريح.
من المعروف أن «الديمقراطية» بحسب الصيغة اللبنانية، منذ قيام الدولة، تماشت مع غرائز الإقطاع في لبنان. فكان النائب يخدم أنصاره فقط، الذين كان يتقّدمهم سيد الجماعة العائلية التي ينتمون إليها. كان الجنوبيون على سبيل المثال يعبرون في الإنتخاباب النيابية عن رأي الجماعة العائلية وسيدها. ينبني عليه أن الجماعة كانت تُحرم من «الواسطة» في التعيينات الوظيفية عندما يخسر مرشحها في الإنتخابات النيابية. كانت الدولة ملكية مشتركة للإقطاع.
أقتضب فأقول أن المتغيرات التي طرأت بعد الطائف جعلت الإنتخابات النيابية والبلدية والرئاسية وتشكيل الحكومات حصيلة صفقات فيما بين أهل السلطة، فهم الذين يقررون مسبقاً إلى حد كبير في بعض المناطق، من سيفوز في الانتخابات، ومن سيكون رئيساً أو وزيراً أو مديراً وصولاً إلى تسمية الأساتذة الجامعيين. هكذا انقلبت المعادلة حيث الزعيم «ينتخب» النائب والوزير ويعين ويسمي.
مجمل القول أن روحية إتفاقية الطائف جعلت المرشح بغنى عن الناخب وأسلمت الدولة إلى زعماء الطوائف الذين راحوا يتصرفون على هواهم فصادروا الدولة وسيطروا على موارد البلاد العامة والخاصة وسيلة لاستيلاب الإرادة والعقل ولإظهار الطاعة.
استنادا إليه، لا نجازف بالكلام أن الناس في البلاد، بعد أن فقدوا القدرة على التعبير والتأثير في ما يتعلق بحاضرهم ومستقبل أبنائهم، يتخبطون في مأزق خانق، وأن ما يهم أهل السلطة في ظاهر الأمر، هو مصالحهم الخاصة، بل ليس مستبعداً أن يكون جل اهتمامهم ارتكز في العامين الماضيين، على إخفاء المحفوظات والوثائق والمعطيات المتعلقة بالأدوار التي يضطلعون بها منذ نهاية سنوات 1970.
ما أود قوله أن التعويل على منظومة الحكم من أجل إخراج الناس من الضائقة التي دفعوا إليها دفعاً هو وهم غايته ترقيدهم أو تهجيرهم حتى انتهاء الأدوار في الفصل الأخير، الذي بدأ في أغلب الظن بشل الدولة وأجهزتها باستثناء مصرف لبنان، حيث صار في ظاهر الأمر، الحاكم عليه حاكماً بأمره في البلاد، مستفيداً من تغطية الجهات التي تمارس كما أشرنا أعلاه، بالوصاية سلطة الدولة المفلوجة.
فعلى الأرجح أن البحث جار على طرائق ووسائل لمواجهة التطورات التي من المحتمل أن يحفل بها الفصل الأخير أو بتعبير أدق التي تتمنى بعض الجهات الدولية وقوعها. فما من شك في هذا السياق أن الولايات المتحدة هي الجهة التي تمارس الجزء الأكبر والأهم من سلطة الدولة المفلوجة.
خلاصة القول في الختام ان اللبنانيين أمام حلّين، لبناني أو إقليمي، ولكن لا يحق لهم اختيار أحدهما. يحسن التذكير حتى لا ننسى أن الدول الغربية صاحبة النفوذ تداولت فكرة ترحيل المسيحيين من لبنان والمشرق، بحجة إنقاذهم. ممن؟ من الغزو والتدمير أم من داعش؟ كما يجب أن لا نقع في الوهم في ما يتعلق بقدرة الجماهير الشعبية على إسقاط المنظومة الحاكمة. ولو سلمنا جدلاً بأن إسقاطها ممكن، فإن الذين يستطيعون الحلول مكانها ليسوا في أغلب الظن معروفين، ولو افترضنا أنهم معروفون فليس مضموناً أنهم سيقبلون الإضطلاع بمهام الحكم، أضف إلى أن آلية إيصالهم إلى السلطة غير موجودة وغير آمنة. في مختلف الأحوال فإن الوريث الشرعي لبنانياً لمنظومة الحكم هو الجيش، علماً أن ليس بالضرورة من حيث المبدأ، أن يسلك الخلف نهج السلف. ولكن هذا موضوع معقد جداً ولم يحن بعد وقته.