عقيل سعيد محفوض – كاتب واستاذ جامعي سوري
كان الوضعُ في المنطقة العربية موضوع تقديرات تتحدث عن شعوب خرجت من السياسة ومن التاريخ، ولكنهما لا يزالان ساكنين فيها أو لا تزال مسكونة بهما. ووصل الأمر بشريحة من المتابعين للقول –على ما في ذلك من حدة وقساوة وربما تجنّ- إن العرب ليسوا “ظاهرة صَوتِيَّة” فحسب، وإنما “ظاهرة بيولوجية” أيضاً، على ما ظهر من تزايد كبير نسبياً في عدد الولادات، في مجتمعات ودول الحرب، كما في حالة سورية مثلاً؛ وربما “ظاهرة داروينية”، يأكل فيها القويُ الضعيف، أو بتعبير أدق يأكل فيها القادرُ على التكيف مع ظروف الحياة غيرَ القادرِ على التكيف!
وثمة وُجهات نظر أخرى، قالت: إن العرب “ظاهرة ميتافيزيقية”، يبحثون في “أمورِ السماء” أكثر من “أمور الأرض”، وهم – بالعموم وليس بالمطلق- أكثر جهلاً بهذه من تلك، وقد يكون العكس صحيحاً أيضاً؛ وانهم ربما يعانون من “تخلف” أو “تأخر” لا مثيل له عَرَّفَه بعض الكتاب بـ “التأخر المحض” أو “التخلف المحض”، أي ذلك “التخلف” أو “التأخر” الذي يظهر في شيء تقريباً، ويلقي بظلاله وتبعاته على كل شيء في الظاهرة العربية، لكن يصعب تعيينه وتفسيره بالتمام!
وثمة إلى ذلك تقديرات رأت أن العرب، وخاصة السوريين، هم “ظاهرة مهاجرة”، العربي “كائن مهاجر”، وقد كان كذلك قبل الحروب، وتعزز خلالها، بالإضافة إلى صفات أخرى مثل كون العربي “كائناً تائهاً”، و”مهدوراً”!
الأسئلة الغائبة
السؤال “الغائب” أو “المسكوت عنه” عموماً في فضاء التفكير لدى العرب والمعنيين بالشؤون العربية هو: لماذا وقفت شريحة قد تكون كبيرة نسبياً من الناس في مجتمعات ودول الحرب في “منطقة رمادية” بين استقطابات الحرب، كما حدث في سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن والسودان وغيرها، ألم ينطوي ذلك على سلوك “لا-سياسي”،[1] إن أمكن التعبير، أو عزوف عن المشاركة أو الانخراط في حدث ذي طابع وجودي، موافقة أو مناهضة؟
لكن العزوف عن السياسة ليس وليد الحرب، إنما كان قبلها، ويمكن تقصي ذلك خلال عدة عقود خلت، وذلك خلافاً للتقديرات الشائعة من أن العرب “مولعون بالسياسة”، مرة اخر تبدو مثالاً مناسباً هنا، على ما نُقل عن شكري القوتلي محذراً جمال عبد الناصر إبان الوحدة بين سورية ومصر في العام 1958؟ وعلى ما يحب السوريون أن يرددوه بنوع من الاعتزاز والتباهي؟
ولكن هل عزف العرب عن السياسة بالفعل؟ يتعلق الأمر بظاهرة ملغزة بالفعل، إذ انك تجد مؤشرات متعاكسة، قدر كبير من “الانشغال بالسياسة”، بمعنى المتابعة والحديث والنقاش أو حتى التهامس الخ وقدر أقل من “الانهمام” أو “الانخراط” في السياسة، بمعنى العمل السياسي. ليس من اليسير الإجابة على هذه الأسئلة، إنما من المناسب الحديث في خط المعنى الممكن أو المحتمل
الانهمام بالسياسة
يبدو أن اهتمام العرب بالسياسة شهد تراجعاً متزايداً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مقابل بروز متزايد أيضاً لاهتماماتهم الاجتماعية والحياتية، وخاصة السعي لـ”تدبير الحياة”، وتأمين الاحتياجات، ومن ذلك مثلاً ظاهرة الهجرة المضطردة إلى الخارج، وخاصة منطقة الخليج.
حدث تحول مشابه في الاهتمامات الثقافية والفكرية، إذ تراجعت الكتابة في السياسة والفكر السياسي، مقارنة بالكتابات الروائية والإبداعية، وخاصة في الرواية والمسرح والدراما التلفازية وأشكال الفنون الأخرى، حتى أخذت الدراما التلفازية تمثل “ديوان العرب” مثلما كان الشعر “ديوانهم” أيضاً، عل ما تقول الدراسات الأدبية والتاريخية، لتبرز بعدها “الرواية” بوصفها “ديوان الحرب”، كما في حالة سورية، وقبلها لبنان، إن أمكن التعبير، وأرجو أني لا أبالغ في ذلك.
هذا لا يعني أن العرب لم يكونوا يتابعون أو يهتمون بالسياسة، إنما هم هجروا السياسة لديهم، وأخذوا يتابعون ما يحدث في مجتمعات ودول الجوار، ويتابعون ما يتعلق بهم وببلدهم من خلال منابر “الآخرين”، ويتندر كثير من السوريين مثلاً بأنهم كانوا يعرفون أسماء نواب البرلمان والوزراء والكتاب والصحفيين في لبنان وفرنسا وألمانيا وغيرها أكثر ما يعرفون نواب ووزراء وكتاب وصحفيين من بلدهم.
وهكذا، فإن الناس، على العكس مما يُظن، لم يكونوا في حالة عزوف عن السياسة بإطلاق، وإنما عن سياسة أو سياسات بعينها، ولم يكن ذلك “عزوفاً” عن السياسة، بقدر ما كان “اتباعاً” للسياسة ولكن بوسائل أخرى.
السياسة والحرب
أظهرت الحرب في سورية والعراق وليبيا واليمن، وحتى في السودان ولبنان، أن الكثير مما كان من ضعف أو تراجع الظاهرة السياسية والحزبية، هو من “المظاهر الخادعة” وهو شيء من طبيعة السياسة نفسها، وشكل من أشكالها، هو بالأحرى نوع من “مكر السياسة”.
ذلك أن ضعف العصبية أو الدافعية للتيارات الفكرية والإيديولوجية التقليدية، والأحزاب السياسية، قابَلَهُ اهتمام متزايد بالتيارات الفكرية والإيديولوجية الدينية والقيم التقليدية والعصبيات “ما قبل” الدولة أو “ما فوق” الدولة، إن أمكن التعبير، بالإضافة إلى قيم التخلي والهجرة والاغتراب.
وهكذا، فقد كشفت الحرب السورية مثلاً عن تحولات كبيرة في نظم القيم واتجاهات الرأي والفعل الاجتماعي وتفضيلاته ورهاناته، ابتعاد كبير عن السياسة بالمعنى التقليدي المعروف في سورية. ومن غير الواضح بالتمام ما إذا كانت فواعل السياسة لاحظت ذلك، ولا كيف كان تقديرها أو تقييمها له، وهل التقطت ذلك التحول ووعته، أم ماذا؟
في تقدير أولي، من الممكن أن تلك الفواعل ربما لاحظت تلك التحولات لكنها لم تلتقط معانيها ودلالاتها، أو لم تتوقع أن يكون لها تداعيات أو مفاعيل قريبة في الظاهرة السورية والعربية، وربما وضعت تلك التحولات في سياق عالمي أو عولمي. ومن ثم كان التقدير، تقديرها هي، أن من المناسب أو المفيد عدم إيلاءها اهتماماً كبيراً، طالما أنها لم تتظهّر أو تتجلى تحت عناوين سياسية أو تنظيمية مناهضة، ولابد أن فواعل السياسة وجدت في نفسها القوة والمنعة التي تعصم البلاد من تحولات راديكالية غير قابلة للضبط أو الاحتواءـ
السياسة بوسائل أخرى
ان تظن الدولة أو النظام السياسي في المجال العربي (والإقليمي) أنه “أمسك” المجال السياسي، و”أحكم” السيطرة عليه، فإن المجتمع –بالعموم وليس بالمطلق- يلجأ إلى ديناميات معكوسة، قد تكون غير مباشرة، وغير قصدية، وختَّالة، من قبيل:
– اللجوء للعصبيات الفرعية والانتماءات العائلية والقبلية والعشائرية والطائفية والمناطقية.
– التخلّي عن “الانهمام بالشأن العام”، والتحول إلى الخاص والفردي.
– الزبانة السياسية والاجتماعية، والنفاق.
– الاهتمام بالحصول على الكسب أو الريع، حت لو كان ذلك عل حساب القيم.
– التيه والخروج عن المألوف والبحث عن خيارات غير تقليدية، مثل التخلي عن القيم الجمعية والوطنية وسلوك سبل الاتزراق والأعمال غير المشروعة الخ
يبدو أن طيف الديناميات والطرق المسلوكة كبير، الخطير في ذلك هو أن تتحول من ديناميات مؤقتة باعتبار الحرب إلى ديناميات مكينة أو راسخة، يمكن التدخل عليها و”هندستها” لتصبح “بديلاً” عن ديناميات “المواطنة” و”الوطن”، ومُناهِضَة –بكيفية أو أخرى– لفكرة الوطن والدولة.
هنا، يصير التخلي السياسة هو تخلٍّ عن المجتمع والدولة والوطن، ليس في الداخل فحسب وإنما في الخارج أيضاً أو حيال الخارج.
سياسات التخلي
يمكن الإشارة هنا إلى مثال مؤلم بالفعل، إذ حدث في الأيام الأخيرة من حكم الرئيس صدام حسين، أن خرجت مظاهرات مؤيدة له، ردد المتظاهرون فيها هتافات من قبيل: “ما نتخلى عن اتنين، عراق وصدام حسين”، لكن ما ان بدأـ الحرب حتى تخلى كثير من الناس عن الاثنين معاً! وبالطبع ثمة أمثلة كثيرة في مجتمعات ودول الحرب العربية اليوم.
وقد يكون التخلي مختلفاً، إذ يحدث التخلي عن الدولة بما هي مظلة وأفق للعيش والولاء والانتماء، إلى عدها “عدواً” يجب القيام بأي أمر ممكن لمناهضتها وهدمها، بما في ذلك التعامل مع “العدو التاريخي”، الذي لا يعود في مثل هذه الحالة “عدواً” بل “حليف”!
هنا تصبح الدولة “هدفاً” و”غنيمة”، فيسهل “الانقضاض” عليها، مع أول فرصة سانحة، ويحدث ذلك أيضاً باعتبار الدولة -وهذه ظاهرة دارجة هذه الأيام- “موضوعاً” لنوع من “الجهاد” المُفضي إلى “جنة الريوع” المقبوضة في الأرض، أو إلى “جنة الريوع” المأمولة أو الموعودة (“الحور العين”) في السماء!
وقد لا يكون المكر في اندماج أو انخراط الناس في السياسة على جانبي الحرب، وإنما في “تركهم” كل شيء، والهجرة إلى الخارج، وشريحة كبيرة منهم، لم تفعل شيئاً في السياسة تقريباً، إنما أرادت أن تعيش، بعيداً عن الحرب.
وهكذا، لم يكن ثمة عزوف عن السياسة بالتمام، وإنما لجوء إلى سياسات أخرى، كما سبقت الإشارة، وما يحدث اليوم هو نوع من “مكر السياسة”، وهذا ليس في صف طرف ضد آخر، لأن لجوء أي طرف لاحتواء “الآخر” أو “إقصائه” إلخ سوف يعني بروز ديناميات أخرى لـ “المواجهة” أو “التخلي”. إنه “المكر” الذي يحيق بالجميع، في هذا المشرق الجميل.
نقلاً عن موقع خمس نجوم